«إنّ الأهم من معرفة العدو هو معرفة العداء وأسلوب عدائه لنا»

 (الإمام الخامنئي)

 

تنطلي على معظم المسلمين خطورة ما أقدم عليه سلمان رشدي في روايته «آيات شيطانية». معذورون ربما لأنهم لم يقرأوا الرواية، ولا هم مطّلعون على حقيقة وخلفية ما يبثّه الأعداء من سموم ثقافية، وما يشنّونه من ضربات وطعنات إلى صدر الإسلام والفطرة الإنسانية. فتعاملوا مع القضية ببرودة وبلادة غالباً. في حين انساقت نخب إسلامية ثقافية، بسبب التشوّش الذي وقعت فيه في فهم أبعاد القضية وتبيّن مكائدها، وربما بفعل ضغط الآلة الإعلامية الغربية، إلى إعلان الحياد الثقافي أو الابتعاد مسافة عن فتوى الإمام الخميني بتموضعٍ اجتهادي يبحث عن جواب آخر لا يُظهر الإسلام في موقع «التشدد». تتعب هذه النخب بتطوير بعض التعاطف الغربي، وتبرّر لنفسها ذلك بما يعانيه العالم الإسلامي من وضع شائك محزن وما يحمله التراث الإسلامي من شوائب وتآويل لا حد لها، فتتماهى مع أطروحة «حرّية التعبير» على إطلاقها، لإبطال شرعيّة حكم يستغلق عندها على الفهم وينأى عن القبول في ظل «شريعة الحداثة» ومنجزاتها الثقافية، أو هروباً من سجالات تأصيل الدين وإشكالياته الحرجة التي جعلت كثيرين في الواقع الإسلامي يخافون أن تُحوّلهم وسائل الإعلام عند التعبير عن موقف لا ينسجم مع الأذواق الغربية من «متنوّرين» إلى «متطرفين».

 

برع الغرب المؤيد لرشدي بتجهيل نفسه عن الفعل المشؤوم وأنّه خاص به ومسؤول عن نتائجه. جعل المسلمين ينشغلون بتبرير دينهم، مُدْخِلاً إيّاهم في لجّة الاختلافات الفقهية والالتباسات السياسية، في حين نجح هو في نصب جدران عاطفية ودرامية تحمي «بطلاً»، تقصّد دحض الدين الإسلامي بطريقة ساخرة فظّة ومن وراء ذلك تهشيم كل ما هو جيّد وذو قيمة وعفة في الأديان والمجتمعات البشرية، من دون أن يشعر بالخجل والخطأ وسوء صنيعه هذا.

رواية سلمان رشدي كانت حرباً ثقافية، عدواناً ثقافياً، تهجّماً ثقافياً للحطّ من الإسلام ونبيه، بل وكل الأحكام السماوية النورانية وكل الرسل الإلهيين. خطورة ما كتبه من ترهات وسخافات ومفتريات كانت في الحقيقة أبعد من تشويه صورة الإسلام والهزْء من نبيه وصورته النقية الناصعة، فقد كان الغرض تدمير كل القيم السماوية وجعل أمواج الفساد والانحراف الأخلاقي حالة سارية في كل مظاهر الحياة الإنسانية. والحق أنّ الرواية شرّ ما أنتجه الغرب من نص مقروء، وأسوأ ما اختلقه من إفك تاريخي، وأخبث ما صدر عن سياساته الثقافية حتى لو غلّف ذلك بنصْب آليات جذابة تُسرّب إحساساً عاماً بصحة ما يقوم به.

الدوافع العدوانية للغرب باعتباره نمط تفكير وسياقاً سلوكياً من منظور علم المعرفة، كانت واضحة عند الإمام الخميني، وهي تتسق مع حالات الاعتداء والتطاول على الشعوب والمستضعفين لسحق مصالحهم وجعلهم أسارى وعبيداً له.

والفتوى التي صدمت العدو صدمة عنيفة ووقفت سدّاً منيعاً أمام توغله، وبمعزل عن تأصيلها الفقهي القرآني حول حكم المرتد في الإسلام وما يُثار حوله من ضجيج وصخب، كانت تهدف إلى الحفاظ على العقيدة الإسلامية من أي تبديل أو تغيير أو انحراف. السكوت عن تخرّصات رشدي كان سيمكّن العدو من أن يطاول لاحقاً أسس الدين الإسلامي ويعمل على التشكيك فيها وإحلال عقيدته ومبادئه المادية، القائمة على الابتذال الثقافي وغلبة الشهوات والنزوات، محلّه. موقف الإمام الصلب والحاسم منع أي إنسان من أن تطاول يده حريم الإسلام أو أن يقوم بعض المتذبذبين المسلمين بالتنكر لبعض المبادئ أو إخفائها أو التقليل من أهميتها لإرضاء هذه الدولة أو تلك أو هذه المنظمة الدولية أو تلك.

 

وإن طاولت الفتوى الكثير من النعوت المذمومة من غربيين، وحتى مسلمين، بل ومن مثقّفين محسوبين على خط المقاومة، هي التعبير الحقوقي العادل بوجه الشذوذ في فيضانه المريع

 

لو لم يكن موقف الإمام بهذا الوضوح والصلابة لتجرّأ العدو على جعل المسلمين يتجاهلون بعض الأحكام الإسلامية أو يهوّنون من أهميتها كالجهاد والقِصاص والحجاب فتضيع تلك الأحكام وتضيع الهوية الإسلامية معها محاباة ومجاملة له. إنّ الغرب يخاف أن تنكشف حقيقته وخدعه وألاعيبه لذلك يلجأ إلى الاستتار خلف عناوين الحريات والديموقراطية وحقوق الإنسان وهو يفرح عندما يجد صوتاً عند المسلمين يندّد بفتوى الإمام باعتبارها حدّاً للحريات، ويستمتع بحق الفقيه بالاجتهاد في هذه القضية أصاب الفقيه أو أخطأ، وينتشي عندما تتحول طقوس الاضطهاد التي تحيط برشدي إلى مادة دعائية تحرك القلوب الهشة وربما الذئاب التي نامت من قرون، حتى يتمكن من غرز أصابعه الثقافية في جسد الأمّة ويتقدم إلى الحصون الأخلاقية ليدمرها.

هدف الغرب هو زعزعة إيمان المسلمين باعتقاداتهم ودفعهم للتخلي تدريجياً عن التزاماتهم الدينية وأن يعيشوا حالة الغفلة وعدم الثقة بالنفس والانهزام أمام النزوات النفسية (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً). لقد أدرك الإمام سريعاً مكر الغرب في هذه القضية وسعيه أن لا يقوم أحد باكتشاف مخططه الخبيث هذا، وأن لا يكون هناك مَن يدرك ما يرمي إليه من تأثير على الوعي والضمائر والأخلاق، فيلوذ المسلمون بمرجعياتهم ومفكريهم وسوادهم بالصمت، أو يتعاملون مع القضية باعتبارها قضية ثقافية تتصل بحرية التفكير والتعبير ولا تزيد عن ذلك، وأنّ حظ هذا النوع من الكتابات ليس إلا سلّة المهملات، وهي بالتالي لا تحتاج إلى أي جهد من الغضب أو إفراط في الغيرة. لكنّ الإمام ليس من الأشخاص الذين ينخدعون بمشهد الاحتيال والتآمر أو يتوهمون أنّ التراجع أمام الأعداء له حدود. فبمجرد السكوت، كانوا سيقومون بهجوم جديد على الإسلام لينهشوه ويزيدوه ضعفاً.

 

لذلك من الخطأ ما وقع به البعض من تصوير القضية باعتبارها قضية شخصية في إطار الصناعة الروائية وإشكالاتها، بل الحق إنها في إطار الصناعة العدائية للغرب وكمائنه التي تحتاج إلى موقف سريع حاسم وإلا جاءت الضربة التالية أشدّ من الأولى. حرّية التعبير التي جعلوها مشجباً يعلّقون عليه ممارساتهم الخبيثة كانت مجرد ذريعة. قبل أن تطرح قضية سلمان رشدي، كانت هذه العداوات موجودة ضد الإسلام وأحكامه. لماذا هذا الحكم ولماذا ذاك؟ وقد نجح الغرب في أزمنة قديمة وحالية في تغيير أو تعطيل العديد من الأحكام في بعض المجتمعات الإسلامية نتيجة رضوخ واستسلام القيادات الكبيرة فيها. الأحكام التي تصون الإنسان وكرامته وتُعلي من شأنه وتدافع عن حقوقه وتهدف إلى نشر العدالة والأمن والسلام وتقف في وجه الجبابرة وإفسادهم ونهبهم وطغيانهم وحروبهم وجرائمهم وأطماعهم لا يرغبون بوجودها. نعم، ما يخدّر المسلمين ويجعلهم يغفلون عن قيمهم وقوتهم وثرواتهم سيكون مرغوباً به ليتمكّن بعدها الأعداء من التسيّد والهيمنة. إنّ الإسلام خطر عليهم بهذه الأحكام التي تجعله مقتدراً عزيزاً مهاباً. وهم عارضوا فتوى الإمام ليس لمقام رشدي عندهم بل لأنّ الإمام بشجاعته وذكائه أحبط مشروعهم وجاهليتهم ومعاييرهم الحقوقية والأخلاقية.

اليوم، هم يتلاعبون بالرأي العام ويخدعونه بذريعة هذه الفتوى التي ما أصدرها الإمام إلا عن معرفة وأصالة ووعي وعقلانية وشعور بالمسؤولية من أن يؤدي السكوت إلى مسار ترسمه قوى الهيمنة الغربية يفضي إلى تعميم حياة الميوعة والانحلال من دون كوابح واعتراضات وأسئلة.

فتوى الإمام التي تنتمي إلى أحكام العقل الإنساني قبل أن تكون تشريعاً دينياً، هي صرخة في وجه المعايير الثقافية الغربية التي ترتكب الفجائع تحت لافتة السلام وحقوق الإنسان. صرخة في وجه الأساليب العدوانية الاستغلالية البشعة التي تطاول الأسرة والمرأة والطفولة واليد العاملة والبيئة. صرخة في وجه الجرائم الدموية من هيروشيما ونكازاكي إلى فييتنام وأفغانستان والعراق واليمن وفلسطين وسوريا ولبنان. صرخة في وجه الحضارة المادية التي أغرقت عشرات البلدان وملايين البشر في أشد وأقسى المحن الاجتماعية والأخلاقية من خلال تفكيك العلم والتكنولوجيا والصناعة والسياسة والدولة والمصالح عن الروحانيات والمعنويات والإيمان. أهمية فتوى الإمام أنها هدفت إلى منع أولئك الذين لديهم القوة الإعلامية والدعائية من الضغط على زر القنبلة الثقافية من تفجيرها لأنهم لا يأبهون لكرامات الناس وتعاليم الأديان والفضائل الأخلاقية نتيجة ما يتصفون به من تكبّر وأنانية وغرور وبسبب محورية المال والربح واللذة التي أعطت الضوء الأخضر للدوس على كل الأديان والمقدّسات.

 

شعب كالشعب الفلسطيني يُسحق تحت أقدام الصهاينة المتغطرسين أمر طبيعي في المعايير الأخلاقية الغربية. اغتيال كاتب عربي مسيحي مؤيد للقيم الإنسانية النبيلة ومناصر للمقاومة كناهض حتر يمرّ مقتله بلا إدانات دولية وصخب حقوقي، في حين أنّ أي كلمة توجّه إلى سلمان رشدي فإنّ كل الإعلام الغربي والمنصات الثقافية تتحرك دفاعاً عن رذائله وإباحيته.

نعم، فتوى الإمام الخميني، وإن طاولتها الكثير من النعوت المذمومة من غربيين، وحتى مسلمين، بل ومن مثقفين محسوبين على خط المقاومة، هي التعبير الحقوقي العادل بوجه الشذوذ في فيضانه المريع، وهي الفكرة النبيلة في خدمة الحياة الإنسانية الشريفة، وهي الماء الذي سقى غرسة الإسلام إرادة جديدة على الصمود والمقاومة مقابل الاستكبار، وهي البطولة التي تدفع عن المسلمين أي شك في درب سيادة الإسلام والعمل بأحكامه. بل هي كما قال الخامنئي يوماً: «أشبه بالرصاصة التي أُطلقت باتجاه هدفها وسوف يأتي يومٌ تصيب فيه هذه الرصاصةُ هدفها».

 

* أستاذ العلوم السياسية

في الجامعة اللبنانية الدولية

 

المصدر: صحيفة الأخبار