7ـ ومنها الجزية

 

والمراد بالجزية المال الذي يؤخذ من أهل الكتاب الذين يعيشون في البلاد الإسلامية وفي ذمة الإسلام. وقد مرّ الكلام عن وجوب أدائها عليهم ووجوب أخذها منهم وعن مصرفها الشرعي عند البحث عن المنابع المالية التي للحكومة الإسلامية إذا كانت ولاية الأمر بيد المعصوم (عَليهِ السَّلام)، إلاّ أن من المأسوف عليه أنه لم نبحث هناك عن أنها هل جعلت تحت يد ولي الأمر المعصوم (عَليهِ السَّلام) أم هي تحت يد مطلق ولي أمر الأمة معصوماً كان أو لا؟ وإن كان المستفاد من عدة من الأخبار المذكورة هناك أن المسلم مشروعية وقوعها تحت يد الولي المعصوم (عَليهِ السَّلام) وكيف كان، فاللازم هاهنا أن نبحث عن كلا الأمرين، أي وجوب وقوعها تحت يد المعصوم، وتبيين أمرها عند تأسيس الولاية الإسلامية بيد الولي الفقيه أو عدول المؤمنين، فنقول:

 

إن المذكور في القرآن الكريم هو أصل وجوب أخذ الجزية عن أهل الكتاب، فقد قال الله تبارك وتعالى خطاباً للمسلمين ﴿قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾[1]. فكما ترى قد أمر المؤمنين بقتالهم إلى أن يعطوا الجزية وهم صغار، فإن لم يعطوا الجزية يقاتلون ويقتلون، فإذا أرادوا العيش فلابد عليهم من إعطاء الجزية، فإعطاؤها واجب عليهم ويأخذها المسلمون، إلاّ أنه لم تصرّح الآية المباركة بأن الأخذ من هو؟ فلعله خصوص من بيده تولى أمور الأمة كما يتولى سائر أمورهم، ولعلّه خصوص الولي المعصوم (عَليهِ السَّلام)، إلاّ أنه ليس من ذكر شيء من الاحتمالين في الآية المباركة تعرّض أصلاً، بل هذه الآية الشريفة كسائر آيات إيجاب الجهاد على المؤمنين، خاطبهم الله بوجوب قتالهم إلى أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فبما أنها من الآثار الشرعية المترتبة على قتال الكفار فلعل أمرها موكول إلى من بيده أمر الجهاد، وهو ولي أمر الأمة، ولعل حكمها غير ذلك وإن كان الأنسب الاحتمال الأول.

 

وأما الأخبار فهي بألسنة مختلفة:

 

1ـ فطائفة منها تدل على أن النبي (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) كان يأخذ الجزية.

 

أـ ففي صحيحة زرارة عن أبي عبد الله (عَليهِ السَّلام) قال: إن رسول الله (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) قبِل الجزية من أهل الذمة على أن لا يأكلوا الربا ولا يأكلوا لحم الخنـزير ولا ينكحوا الأخوات ولا بنات الأخ ولا بنات الأخت، فمن فعل ذلك منهم برئت منه ذمّة الله وذمّة رسول الله (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم)، قال: وليست لهم اليوم ذمة[2].

 

فالصحيحة وإن كانت في مقام بيان اشتراط ترك المحرمات المذكورة في حصول الذمة إلاّ أنها مع ذلك دالّة على أن النبي (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) كان بيده أمر الجزية.

 

ب ـ وفي صحيحة فضل بن عثمان الأعور عن أبي عبد الله (عَليهِ السَّلام) أنه قال: ما من مولود يولد إلاّ على الفطرة فأبواه اللذان يهوّدانه وينصّرانه ويمجسانه، وإنما أعطى رسول الله (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) الذمة وقبل الجزية عن رؤوس أولئك بأعيانهم على أن لا يهوّدوا أولادهم ولا ينصّروا، وأما أولاد أهل الذمة اليوم فلا ذمة لهم[3].

 

ودلالتها أيضاً على أن أمر أخذ الجزية كان بيده (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) واضحة.

 

ج ـ وفي مرسل سهيل بن زياد أبي يحيى الواسطي عن بعض أصحابنا قال: سئل أبو عبد الله (عَليهِ السَّلام) عن المجوس أكان لهم نبي؟ فقال: نعم، أما بلغك كتاب رسول الله (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) إلى أهل مكة: أسلموا وإلا نابذتكم بحرب، فكتبوا إلى النبي: أن خذ من الجزية ودعنا على عبادة الأوثان، فكتب إليهم النبي (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم): إني لست آخذ الجزية إلاّ من أهل الكتاب، فكتبوا إليه يريدون بذلك تكذيبه: زعمت أنك لا تأخذ الجزية إلاّ من أهل الكتاب ثم أخذت الجزية من مجوس هجر. فكتب إليهم رسول الله (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم): إن المجوس كان لهم نبي فقتلوه وكتاب أحرقوه، أتاهم نبيهم بكتابهم في اثني عشر ألف جلد ثور[4].

 

فهذا المرسل أيضاً يدل على أن أمر أخذ الجزية كان بيد رسول الله (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) كما في الصحيحتين، إلاّ أن غاية مدلولها جميعاً أن أمرها كان بيده المباركة من غير دلالة لها على أن المعتبر في الشريعة أن يكون بيد الولي المعصوم أو بيد الرسول الأعظم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

 

وفي خبر أبي بصير وإسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (عَليهِ السَّلام) أن رسول الله (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) أعطى أناساً من أهل نجران الذمة على سبعين برداً ولم يجعل لأحد غيرهم[5].

 

فإن الظاهر أن هذه السبعين برداً كانت جزية عليهم، فيدل الخبر على أن أمر الجزية كان بيده المباركة. فهذا الخبر أيضاً مثل الصحيحين.

 

ولعله توجد روايات أخر أيضاً دالة على هذا المعنى.

 

2ـ وطائفة أخرى تدل على أن أمير المؤمنين (عَليهِ السَّلام) في أيام توليه لإدارة أمر الأمة الإسلامية كان يأخذ الجزية.

 

أـ فقد روي عن مصعب بن يزيد الأنصاري أنه قال: استعملني أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عَليهِ السَّلام) على أربعة رساتيق: المدائن البهقياذات، ونهر سير (شير ـ خ ل) ونهر جوير، ونهر الملك. وأمرني أن أضع على كل جريب زرع غليظ درهماً ونصفاً، وعلى جريب وسط درهماً، وعلى كل جريب زرع رقيق ثلثي درهم، وعلى كل جريب كرم عشرة دراهم، وعلى كل جريب نخل عشرة دراهم، وعلى كل جريب البساتين التي تجمع النخل والشجرة عشرة دراهم وأمرني أن ألقي كل نخل شاذّ عن القرى لمارّة الطريق وابن (أبناء) السبيل ولا آخذ منه شيئاً، وأمرني أن أضع على الدهاقين الذين يركبون البراذين (البزازين ـ الوسائل) ويتختمون بالذهب على كل رجل منهم ثمانية وأربعين درهماً، وعلى أوساطهم والتجار منهم درهماً على كل إنسان منهم. قال: فجبيتها ثمانية عشر ألف ألف درهم في سنة[6].

 

والظاهر أنه إلى هذه الرواية يشير ما عن المفيد (قدّس سرّه) في المقنعة حيث قال: وعن أمير المؤمنين (عَليهِ السَّلام) أنه جعل على أغنيائهم ثمانية وأربعين درهماً، وعلى أوساطهم أربعة وعشرين درهماً، وجعل على فقرائهم اثني عشر درهماً. وزاد عليه بقوله: وكذلك صنع عمر بن الخطاب قبله. وإنما صنعه بمشورته (عَليهِ السَّلام)[7].

 

ووجه دلالتها أن الظاهر أن هذه الوجوه المجعولة المأخوذة سيما المذكورة منها في كلا النقلين كانت جزايا جعلت عليهم بأمر أمير المؤمنين (عَليهِ السَّلام). فتدل الرواية على أنه (عَليهِ السَّلام) أيضاً كان يأخذ الجزية على حدّ دلالة الروايات التي التي في الطائفة الأولى الآنفة الذكر.

 

3ـ وهنا طائفة أخرى تدل على أن سائر الخلفاء الذين غصبوا مقام ولاية الأمر كانوا أيضاً يأخذون الجزية.

 

فقد روي عن الصدوق أنه قال: قال الرضا (عَليهِ السَّلام): إن بني تغلب أنفوا من الجزية وسألوا عمر أن يفيهم، فخشي أن يلحقوا بالروم، فصالحهم على أن صرف ذلك عن رؤوسهم وضاعف عليهم الصدقة، فعليهم ما صالحوا عليه ورضوا به إلى أن يظهر الحق[8].

 

ب ـ وقد مرّ ذيل مرسل المفيد حكاية اخذ عمر للجزية عن الكفار.

 

ج ـ وفي صدر صحيح محمد بن مسلم قال قلت لأبي عبد الله (عَليهِ السَّلام): أرأيت ما يأخذ هؤلاء من هذا الخمس من أرض الجزية ويأخذ من الدهاقين جزية رؤوسهم، أما عليهم في ذلك شيء موظف؟ فقال (عَليهِ السَّلام):  كان عليهم ما أجازوا على أنفسهم، وليس للإمام أكثر من الجزية، إن شاء الإمام وضع ذلك على رؤوسهم وليس على أموالهم شيء وإن شاء فعلى أموالهم وليس على رؤوسهم شيء قلت: فهذا الخمس؟ إنما هذا شيء كان صالحهم عليه رسول الله (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم)[9].

 

فإن صدر الحديث يدل على أن خلفاء الجور كانوا يأخذون من أهل الذمة الخمس بعنوان الجزية، وهو الذي أوجب سؤال الراوي عن سابقة هذا الخمس، وعن انه هل في الجزية مقدار موظف؟ والإمام (عَليهِ السَّلام) بعد بيان أنه لا شيء موظف في مقدار الجزية أوضح أن هذا الخمس إنّما جاء من طريق المصالحة معهم. وكيف كان، فيدل صدر الحديث على أن أخذ الجزية بيد خلفاء الجور كان أمراً دارجاً.

 

ثم إن في الصحيحة جهة أخرى يأتي الكلام عليها عن قريب إن شاء الله تعالى.

 

4ـ وهنا رواية أخرى تدل على أن للإمام ـ الظاهر في المعصوم ـ أخذ الجزية، وهي ما عن مقنعة الشيخ المفيد (قدّس سرّه)، حيث قال: روى محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عَليهِ السَّلام) أنه سأله عن خراج أهل الذمة وجزيتهم إذا أدّوها من ثمن خمورهم وميتتهم أيحل للإمام أن يأخذها ويطيب ذلك للمسلمين؟ فقال: ذلك للإمام والمسلمين حلال، وهي على أهل الذمة حرام، وهم المحتملون لوزره، فإن قوله في السؤال: «أيحل للإمام أن يأخذها؟» يدل على أن الإمام هو الذي بيده أخذها، إلاّ أن هذه الجملة ليست في نسخة الكافي ولا الفقيه ولا التهذيب[10].

 

فهذه الروايات إنّما تدل على أن النبي (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) أو الإمام (عَليهِ السَّلام) كان متصدياً لأخذ الجزية بلا دلالة منها على اعتبار أن يكون هو الآخذ، وقد مرّ بيانه ذيل الطائفة الأولى.

 

نعم، إن في الأخبار صحيحتين تدلان على أن اللازم أن يكون أخذ الجزية بيد الإمام المعصوم (عَليهِ السَّلام)، فقد روى المشايخ الثلاثة بسند صحيح عن زرارة ـ واللفظ عن الكافي ـ قال: قلت لأبي عبد الله (عَليهِ السَّلام): ما حد الجزية على أهل الكتاب؟ وهل عليهم في ذلك شيء موظف لا ينبغي أن يجوزوا إلى غيره؟ فقال: ذاك إلى الإمام أن يأخذ من كل إنسان منهم ما شاء على قدر ما يطيقون، له أن يأخذهم به حتى يسلموا، فإن الله تبارك وتعالى قال: ﴿ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾. وكيف يكون صاغراً وهو لا يكترث لما يؤخذ منه؟! حتى يجد ذلا لما أخذ منه فيألم لذلك فيسلم[11]، فإن قوله (عَليهِ السَّلام): «ذاك إلى الإمام...» دليل واضح على أمر الجزية موكول إلى الإمام حتى أنه يعين مقدارهما مع رعاية الجهات اللازمة الرعاية.

 

والصحيحة الأخرى هي صحيحة محمد بن مسلم التي مضت عباراتها آنفاً، فإن قوله (عَليهِ السَّلام) فيها «وليس للإمام أكثر من الجزية، إن شاء الإمام وضع ذلك على رؤوسهم وليس على أموالهم شيء، وإن شاء فعلى أموالهم وليس على رؤوسهم شيء» دليل واضح على ما ذكرنا، وتصير هاتان الصحيحتان بياناً على أن ملاك قيام النبي وأمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليهما وآلهما المعصومين بأخذ الجزية إنّما هو أنهما معصومان، وخلفاء الجور كما غصبوا مقام الولاية قاموا أيضاً بهذا الأمر، فبعد كون أخذ الجزية من الاختيارات والوظائف الخاصة بالإمام المعصوم فلا مجال لقيام الولي الفقيه أو عدول المؤمنين إذا تولّوا إدارة أمر الأمة بأخذها.

 

إلاّ أنه مع ذلك كله فهنا روايات لا يبعد دلالتها على أن لولي أمر الأمة أخذ الجزية وإن كان غير معصوم.

 

1ـ فقد ورد في صحيحة عبد الكريم بن عتبة عن أبي عبد الله (عَليهِ السَّلام) ـ ضمن احتجاجه (عَليهِ السَّلام) على عمرو بن عتبة ـ ما نصّه: ثم قال: يا عمرو! دع ذا، أرأيت لو بايعت صاحبك الذي تدعوني إلى بيعته ثم اجتمعت لكم الأمة فلم يختلف عليكم رجلان فيها فأفضتم إلى المشركين الذين لا يسلمون ولا يؤدون الجزية أكان عندكم وعند صاحبكم من العلم ما تسيرون بسيرة رسول الله (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) في المشركين في حروبه؟ قال: نعم، قال (عَليهِ السَّلام): فتصنع ماذا؟ قال: ندعوهم إلى الإسلام، فإن أبوا دعوناهم إلى الجزية، قال: وإن كانوا مجوساً ليسوا بأهل الكتاب؟ قال: سواء، قال (عَليهِ السَّلام): وإن كانوا مشركي العرب وعبدة الأوثان؟ قال: سواء، قال (عَليهِ السَّلام): أخبرني عن القرآن تقرأه؟ قال: نعم، قال (عَليهِ السَّلام): اقرأ ﴿قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ فاستثناء الله عز وجل واشتراطه من الذين أوتوا الكتاب، فهو والذين لم يؤتوا الكتاب سواء؟ قال: نعم، قال (عَليهِ السَّلام): عمن أخذت ذا؟ قال: سمعت الناس يقولون، قال (عَليهِ السَّلام): فدع ذا... الحديث[12].

 

بيان دلالته: أنه (عَليهِ السَّلام) بعد فرض ولاية محمد بن عبد الله بن الحسن الذي كان عمرو بن عبيد ومن معه يدعون إلى ولايته سألهم عما يجب في الشرع أن يفعل مع من يقاتلونه إذا كانوا من المشركين، فأجابوا بأنه يؤخذ الجزية منهم، فردّهم (عَليهِ السَّلام) بأن الله تعالى في كتابه الكريم اشترط في من يؤخذ منه الجزية منهم أن يكون من أهل الكتاب والمشركين ليسوا منهم مضافاً إلى أن أخذ الجزية منهم خلاف سيرة رسول الله (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) في المشركين في حروبه، فالمستفاد جزماً من كلامه أن من وظائف ولي أمر المسلمين واختياراته ـ وإن كان غير معصوم كما هو المفروض ـ جهاد الكفار وأخذ الجزية منهم إذا كانوا من أهل الكتاب ولم يسلموا بعد الظفر عليهم. ومن الواضح أن العصمة لو كانت معتبرة في ولي أمر الأمة في جواز أخذ الجزية لما كان مجال لهذا الاستدلال ولما تم، فكلامه هذا دليل واضح على ثبوت هذه الوظيفة والاختيار لولي أمر الأمة وإن كان غير معصوم، وتكون هذه الصحيحة وما شابهها قرينة عند العقلاء على أن ثبوت هذه الوظيفة والحق للإمام المعصوم (عَليهِ السَّلام) ليس إلاّ لأنه ولي أمر الأمة من دون أي دخل لكونه معصوماً في ثبوتها أصلاً وهو جمع عرفي عقلائي لا ريب فيه.

 

2ـ وقد روى في الكافي عن حفص بن غياث العامي المعتمد عن أبي عبد الله (عَليهِ السَّلام) قال (عَليهِ السَّلام): سأل رجل أبي صلوات الله عليه عن حروب أمير المؤمنين (عَليهِ السَّلام) ـ وكان السائل من محبينا ـ فقال له أبو جعفر (عَليهِ السَّلام): بعث الله محمد (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) بخمسة أسياف: ثلاثة منها شاهرة، فلا تغمد حتى تضع الحرب أوزارها، ولن تضع الحرب أوزارها حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلت الشمس من مغربها آمن الناس كلهم في ذلك اليوم، فيؤمئذٍ ﴿لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا﴾[13] وسيف منها مكفوف وسيف منها مغمود سلّه إلى غيرنا وحكمه إلينا.

 

وأما السيوف الثلاثة الشاهرة فسيف على مشركي العرب، قال الله عز وجل: ﴿اقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ «يعني آمنوا» وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ﴾[14] ﴿ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ﴾[15] فهؤلاء لا يقبل منهم إلاّ القتل أو الدخول في الإسلام، وأموالهم وذراريهم سبي على ما سن رسول الله (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم)، فإنه سبى وعفا وقبِل الفداء.

 

والسيف الثاني على أهل الذمة، قال الله تعالى: ﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً﴾[16] نـزلت هذه الآية في أهل الذمة ثم نسخها قوله عز وجل: ﴿قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾[17] فمن كان منهم في دار الإسلام فلن يقبل منهم إلاّ الجزية أو القتل، ومالهم فيءٌ وذراريهم سبي، وإذا قبلوا الجزية على أنفسهم حرم علينا سبيهم وحرمت أموالهم وحلت لنا مناكحتهم، ومن كان منهم في دار الحرب حل لنا سبيهم وأموالهم ولم تحل لنا مناكحتهم ولم يقبل منهم إلاّ الدخول في دار الإسلام أو الجزية أو القتل. والسيف الثالث... الحديث[18].

 

وبيان دلالته: أن صدر الحديث وإن عدّ السيوف التي بعث الله محمداً (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) بها خمسة ولعلّه يستظهر منه أن جميع هذه السيوف لابدّ وأن تكون بيده المباركة، فتدل هذه الروايات على اعتبار العصمة في آخذ الجزية، إلاّ أن تصريحها بأن السيف الخامس المغمود بيد أولياء القصاص وبأن السيف المكفوف بيد أمير المؤمنين (عَليهِ السَّلام) أو سائر الأئمة (عَليهِ السَّلام) بعد وفاة الرسول (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) دليل على عدم صحة ذاك الاستظهار كما ان قوله (عَليهِ السَّلام) في السيوف الثلاثة الشاهرة «فلا تغمد حتى تضع الحرب أوزارها ولن تضع الحرب أوزارها حتى تطلع الشمس من مغربها» دليل واضح على مشروعية شهر هذه السيوف الثلاثة إلى قيام ولي العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف. فلا محالة كل سيف شهر قبل قيامه (عَليهِ السَّلام) وكان شهره مشروعاً فيترتب على هذه السيوف المشهورة الأحكام التي ذكرناها والتي منها ترتب أخذ الجزية من أهل الكتاب على ثانيها. ولما كان المفروض أن أمر الجهاد شرعاً بيد ولي أمر الأمة وإن كان غير معصوم فقيهاً عادلاً أو من عدول المؤمنين ـ كما مرّ البحث عنه سابقاً ـ فلا محالة يترتب عليه أن أخذ الجزية من أهل الكتاب إذا كانت المقاتلة معهم مترتبة على جهادهم وكانت هذه الوظيفة وهذا الخيار بيد ولي الأمر الذي كانت السيوف المزبورة بيده. وبعبارة أخرى: تدل الرواية بوضوح على أن الآثار المذكورة لهذه السيوف الثلاثة المذكورة بيد من بيده أمر الجهاد شرعاً، ولما كان أمر الجهاد بيد ولي أمر الأمة وإن كان غير معصوم كان أمر أخذ الجزية أيضاً بيده. وقد عرفت أن الجمع الواضح العرفي بينها وبين مثل صحيحتي زرارة وابن مسلم الماضيتين أن سر إرجاع أخذ الجزية إلى الإمام المعصوم (عَليهِ السَّلام) أنه ولي أمر الأمة من غير دخل لثبوت وصف العصمة. والحمد لله.

 

ولا يبعد دعوى استفادة أن ترتب حكم أخذ الجزية إنّما هو على الجهاد المشروع من صحيحة عبد الكريم بن عتبة أيضاً، وعليه فالاستدلال بتلك الصحيحة من طريقين: أحدهما بيانه ذيلها، والآخر مثل ما ذكرناه ذيل حديث حفص بن غياث.

 

وبالجملة: أن وظيفة أخذ الجزية أيضاً ثابتة لمطلق من كان ولي أمر الأمة وإن كان غير معصوم، وهي من اختياراته في الشريعة.

 

ـــــــــــــــــــ

 

[1] التوبة: 29.

 

[2] الوسائل: الباب 48 من أبواب جهاد العدو ج11 ص 95 الحديث 1، عن الفقيه والعلل والتهذيب.

 

[3] الوسائل: الباب 48 من أبواب جهاد العدو ج11 ص 96 الحديث 3، أخرجه عن الفقيه.

 

[4] المصدر السابق: الباب 49 منها ص 96 الحديث 1، أخرجه عن الكافي.

 

[5] المصدر السابق: الباب 48 منها ص 95 الحديث 2، أخرجه عن علل الشرائع.

 

[6] وسائل الشيعة: الباب 68 من أبواب جهاد العدوّ ج 11 ص 115 الحديث 5، عن الفقيه والتهذيب والاستبصار.

 

[7] المصدر السابق: نفس الباب السابق 116 الحديث 8، عن المقنعة.

 

[8] الوسائل: الباب 68 من أبواب جهاد العدو ج11 ص 116 الحديث 6، عن الفقيه.

 

[9] المصدر السابق: الباب المتقدم ص 115 الحديث 2، عن الكافي والفقيه والمقنعة.

 

[10] الوسائل: الباب 70 من أبواب جهاد العدو ج11 ص 118 و 117 الحديث 2و1.

 

[11] الكافي: ج3 ص 566 الحديث1، عنه الوسائل: الباب 68 من أبواب جهاد العدو ج11 ص 113 الحديث 1.

 

[12] الكافي: ج5 ص 25 الحديث 1، عنه الوسائل: الباب 9 من أبواب جهاد العدو ج11 ص 28 الحديث 2، والآية 29 من سورة التوبة.

 

[13] الأنعام: 158.

 

[14] إلى هنا في سورة التوبة: الآية 5، وبعده في الآية المذكورة: «فخلوا سبيلهم» وهو في معنى «فإخوانكم في الدين».

 

[15] هذه الجملة جزء من قوله تعالى: ﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ الآية 11 من سورة التوبة، والآيتان في موضوع واحد وقريبتا المفاد.

 

[16] البقرة: 83.

 

[17] التوبة: 29.

 

[18] الكافي: ج5 ص 10 الحديث 2، عنه وعن الخصال وتفسير القمي والتهذيب في موضعين منه الوسائل: الباب 5 من أبواب جهاد العدو ج11 ص 16 الحديث 2. واعتناء هؤلاء الأعلام بذكره شاهد الاعتماد عليه.