حوار مع آية الله الشيخ محسن الأراكي

 

تقديم: آية الله الشيخ محسن الأراكي، مؤسس المركز الإسلامي في إنجلترا، ومجمع الفكر الإسلامي في قم، وعضو الشورى العليا في المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام ومجمع التقريب بين المذاهب الإسلامية، والعضو السابق في مجلس خبراء القيادة، وأستاذ مبدع ومنظّر في الحوزة العلمية بقم المقدسة. وعلاوة على تدريسه على مستوى الفقه والأصول العليا، يدرّس أيضاً في موضوع «فقه النظام السياسي في الإسلام»، و«فقه الثقافة» أيضاً. وفيما يلي نحاور سماحته بشأن تأثير الثورة الإسلامية الإيرانية على الصحوة الإسلامية على النحو الآتي:

 

•سماحة الشيخ نشكركم على الفرصة التي أتحتموها لنا .. ونتقدم إليكم بالسؤال الآتي: ما هي قراءتكم لأوضاع منطقة الشرق الأوسط وتأثير الثورة الإسلامية الإيرانية على الصحوة الإسلامية؟

 

ـ بسم الله الرحمن الرحيم .. الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على محمد وآل محمد.

 

إنّ منطق تحليل الأوضاع بعد انتصار الثورة الإسلامية يختلف عن أوضاع المنطقة قبل انتصار الثورة الإسلامية، وهكذا الأمر بالنسبة إلى أوضاع العالم. إنّ الذين تابعوا تطور الأحداث قبل وبعد انتصار الثورة الإسلامية، وأرادوا تقييم أوضاع العالم قبل وبعد انتصار الثورة الإسلامية، سيدركون التفاوت بين هاتين المرحلتين بشكل جيّد. لقد كان لانتصار الثورة الإسلامية العديد من الارهاصات والأحداث في العالم، ويمكن بيانها على النحو الآتي:

 

الحدث الأول: انبثاق الصحوة الإسلامية، وتيار العودة إلى الإسلام. وهذا الشعور وهذه الصحوة لم تكن موجودة قبل انتصار الثورة الإسلامية، إذ كانت المجتمعات الإسلامية لا تعير أي اهتمام لإسلامها، وكانت التيارات غير الإسلامية هي السائدة في هذه المجتمعات. فلم تكن المؤسسات الثقافية والسياسية تتحدّث عن الإسلام، ولم يكن الإسلام بوصفه ديناً ديناميكياً ومحركاً للثورات، منشأ لتحرّك وصحوة الشعوب أبداً. وحتى في بلدان الشرق الأوسط، وخاصة الأقطار الواقعة في الجنوب من الخليج الفارسي لم يكن هناك اسم للإسلام لا على مستوى الدول فحسب، بل حتى على مستوى الشعوب، وإذا كان هناك للإسلام من اسم فهو محصور في زوايا البيوت والمساجد وبشكل نادر جداً. وهي بالإضافة إلى ذلك مساجد قليلة جداً. وعندما انتصرت الثورة الإسلامية والقنبلة التي فجّرها الإمام الخميني (رضوان الله تعالى عليه) في العالم ـ قنبلة الانتماء إلى الدين والعودة إلى المعنويات ـ كان من ارهاصات ونتائج ذلك ظهور تيار العودة إلى الإسلام. يجب القول بأنّ هذا الحدث العظيم كان أكثر من مجرّد تيار، وإنما هو جريان هادر ومستمر وشامل في المطالبة بالعودة إلى الإسلام، بحيث أنّ حكام الأقطار الإسلامية وخاصة حكام الدول الواقعة في جنوب الخليج الفارسي ـ الذين لم يكونوا لتفوهوا بالإسلام من قريب ولا بعيد ـ أخذوا يجاهرون في ادعائهم تمثيل الإسلام. ابتداءً من حكام العربية السعودية إلى حكام الإمارات وقطر ومصر وصولاً إلى صدام الذي لم يكن يطيق الحديث عن الإسلام أبداً، بل كان يحارب الإسلام حتى في أطروحته المذهبية، بل إنّ أسس حزب البعث تقوم على اجتثاث الإسلام واستئصاله من المجتمع، ومع ذلك أخذ يبالغ في ادعائه قيادة العالم الإسلامي، وبلغ به الأمر إلى رفع كلمة (الله أكبر) على علم الجمهورية العراقية. وعلى الرغم من أنّ هذه الأمور تنبثق من سياسة مراوغة ومنافقة، ولكنها تثبت أنّ هذه الصحوة الجارفة أجبرت حتى شخصاً مثل صدام ـ الذي لا يعرف الأبجدية الإسلامية ـ على ركوب الموجة الإسلامية، والاصطباغ بلونها.

 

وفي تركيا انتعشت الأحزاب الإسلامية وبدأت تمارس نشاطها، في حين لم يكن في تركيا من يجرؤ على ذكر اسم الإسلام على المستوى الفردي فضلاً عن ممارسة النشاط السياسي، وانتشرت رقعة هذه النشاطات، حتى فازت في الانتخابات واستلمت مقاليد السلطة، وهذا شيء لم يكن هناك من يحلم به قبل ثلاثة عقود، وإذا تحدث به شخص لكان قد عرّض نفسه للسخرية والاستهزاء.

 

لذلك فإنّ ارهاصات هذا التيار الإسلامي العظيم قد اخترقت حدود الدول الإسلامية، وانتقلت حتى إلى أوربا وأمريكا، وبدأ المسلمون في الأقطار الأوربية والأمريكية يشعرون بهويتهم وكينونتهم وكرامتهم للمرة الأولى في تاريخهم، وأما قبل انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية فلم يكن هناك شيء من هذا القبيل، بل كان المسلمون في أوربا وأمريكا يسيرون في الشوارع مطأطئي الرؤوس ويشعرون بالخجل عند الكشف عن هويتهم الإسلامية، وكان الإسلام لا يظهر إلا على جماعة من كبار السن والأجيال القديمة. أما الجيل الجديد في أوربا وأمريكا فلم يكن ليبدي أيّ ميل تجاه الإسلام، وإنّ غالبية هذا الجيل الجديد بدأت بالذوبان في المجتمعات الغربية، وأصبح جزءاً لا يتجزّأ من هذه المجتمعات. في حين ظهر بعد انتصار الثورة الإسلامية تيار مهيب يدعو للعودة إلى الإسلام في الغرب، واتسع الإقبال على بناء المساجد والمراكز الإسلامية بشكل ملفت للغاية.

 

الحادثة الأخرى: الحركة المناهضة للغرب، وهذه الظاهرة تشكل الوجه الآخر للظاهرة الأولى، فكلّ واحدة من هاتين الظاهرتين هما وجهان لعملة واحدة، فإذا كان التيار المنادي بالعودة إلى الإسلام هو الجانب الإيجابي من الحدث، فإنّ الدعوة إلى مقاطعة الثقافة الأجنبية وخاصة الغربية تمثل الجانب السلبي منها. لقد كانت الثقافة الغربية هي الثقافة المسيطرة على العالم، وكانت هي الثقافة الغالبة، وكانت هذه الثقافة تدعي تمثيلها لجميع القيم الإنسانية والبشرية، معتبرة نفسها الحاكم المطلق للعالم، بل كان الغرب من خلال ثقافته يرى نفسه ملاكاً لإنقاذ الناس في كافة أرجاء المعمورة، وحيثما تعرض بلد إلى أزمة، تم تبريرها بأنّ الشعب في ذلك البلد أخفق في تطبيق القيَم الغربية بشكل جيّد. وكانوا ينصحون الدول والشعوب ويقولون: إذا أردتم تحقيق التقدم والنجاح والتخلص من المشاكل والأزمات، فما عليكم إلا الاقتراب من النموذج الغربي. حتى بدأت جميع شعوب العالم ترى في القيم الغربية طوق نجاة، حتى انتصرت الثورة الإسلامية، فظهرت الكثير من علامات الاستفهام أمام مصداقية القيَم الغربية. حتى تحولت هذه القيم في أنظار الشعوب بالتدريج إلى مفاهيم تقف على الطرف النقيض من القيم الإنسانية. أي أنّ شعوب العالم أخذت بالتدريج تدرك أنّ الغرب  لا يمثل ملاكاً منقذاً، بل إنّ جلّ المشاكل والأزمات التي تعاني منها الشعوب إنما هي أزمات مفتعلة من قبل الدوائر المنتسبة إلى هذا العالم الغربي، وتأتي كنتيجة لهيمنة القيم الغربية على العالم. فإذا كان هناك حاكم مستبد في بلدٍ ما، فإنما هو صنيعة للدول الغربية، وإذا كان هناك فقر في بلدٍ ما، فهو فقر مفروض عليه من قبل الغرب، لأنه يأتي كنتيجة لنهب خيراته من قبل الدول الغربية. وإذا كان هناك من تخلف أو ضعف على المستوى العلمي والثقافي، فإنما هو نتيجة للأنانية الغربية واحتكارها للتقنيات العلمية، وعدم سماحها لبقية شعوب العالم الثالث والبلدان الإسلامية ببلوغ ما بلغته حتى بقدراتها الذاتية. من هنا أخذ يظهر في هذه الدول شعور بالكراهية للغرب تدريجياً، حتى تحوّلت هذه الكراهية إلى ثقافة عامة، وكانت هذه الظاهرة المباركة قد ظهرت على مدى ثلاثة عقود من انتصار الثورة الإسلامية.

 

أما الحادثة الثالثة فقد تمثلت في أنّ الغرب في مواجهة هاتين الظاهرتين بدلاً من اتخاذ موقف متزن وحكيم، اختار سلوك طريق الانفعال والتخبّط، حيث بدأ يواجه هذين التيارين بعدوانية. وقد برزت هذه المواقف العدوانية على ثلاثة أشكال:

 

الشكل الأول: العدوان على خصوص الثورة الإسلامية من خلال إثارة الداخل وتسليح العصابات المناوئة للثورة الإسلامية، وإلى جانب ذلك إثارة حرب أخرى موازية قادها صدام بإيعاز من الاستكبار الغربي وشاركه فيها حكام المنطقة، فخاضت الجمهورية الإسلامية حربين متزامنتين داخلية وخارجية.

 

والشكل الثاني، الذي ظهر منذ بداية الثورة من خلال إثارة الحرب الناعمة، وهي حرب شاملة وواسعة تتألف من العديد من العناصر، وكانت الوهابية واحدة منها بل على رأسها، وقد مثلت حرباً باسم الإسلام ضد الثورة والتشيع. حيث اعتقد الغربيون أنّ التشيع هو الأيديولوجية المحرّكة لهذه الثورات، ولذلك أثاروا الوهابية في الخارج ضدّ الثورة من ناحية، كما أثاروا بعض التيارات التنويرية من الداخل وقد تزعمها أشخاص من أمثال الدكتور عبد الكريم سروش وغيره من ناحية أخرى. وبذلك قاد الاستكبار ضدّ الثورة حرباً ثقافية وحرباً ناعمة من الداخل والخارج أيضاً.

 

والشكل الثالث، هو مواجهة النظام بثورات تصلح لكي تكون بديلة عن الثورة الإسلامية لكي تتأسى الشعوب والبلدان الأخرى بها بدلاً من التأسي بنموذج الثورة الإسلامية في إيران. فبعد أن شاهد الغرب أنّ هذه الثورة التي حدثت في العالم أدت إلى ظهور موجة عارمة من العودة إلى الإسلام، وبموازاة ذلك أدت إلى ظاهرة الكراهية للغرب وكلّ ما يمتّ إليه بصلة، سعوا إلى العمل على احتواء هذه الموجة والسيطرة عليها بشكل من الأشكال، فوجدوا أنّ أفضل طريق إلى ذلك يتمثل في إيجاد بدائل منافسة لهذه الثورة، حيث بدأت هذه الثورات والحركات البديلة ترفع بحسب الظاهر نفس الشعارات التي رفعها الإمام الخميني رحمه الله والثورة الإسلامية الإيرانية ضد الولايات المتحدة الأمريكية والمطالبة بحرية الشعوب، ولكنها في الحقيقة والواقع تعمل في الخفاء لصالح المشاريع الأمريكية في المنطقة، وعلى رأسها القضاء على الثورة الإسلامية، واستقطاب البلدان الإسلامية والشباب المتحمّس والثوري واحتوائه داخل هذه التيارات المنحرفة. فكان تنظيم القاعدة، وحركة طالبان، والتيارات المشابهة لهما، بل وحتى حزب العدالة والتنمية التركي، حركات بديلة تأسست في هذا السياق للسيطرة على تيار الثورة الإسلامية، فظهرت في الشرق الإسلامي وجوه مثل الملا عمر وأسامة بن لادن، وتمّ الترويج لهما من قبل الإعلام الغربي بوصفهما خصوم ألداء للحضارة الغربية، ليخطفوا الأضواء من الثورة الإسلامية، ويعملوا على توجيه أنظار الشعوب الإسلامية ناحية هذه الوجوه التي هي مجرد صنائع لها.

 

إذن كان للعدوان الغربي على الثورة الإسلامية ثلاثة أشكال، الشكل الأول: العدوان العسكري المسلح من الداخل والخارج. والشكل الثاني: الحرب الثقافية الناعمة من خلال الترويج للانحراف الفكري الذي يهاجم قيَم الثورة، والشكل الثالث: إيجاد التيارات الثورية البديلة. وقد تمكن تنظيم القاعدة من استقطاب بعض التيارات في العالم العربي. كما تمكنت حركة طالبان من الحصول على موطئ قدم لها في باكستان وشبه القارة الهندية. كما تمكن اردوغان من إيجاد قواعد لنفسه في تركيا وقلب العالم الإسلامي وحتى في بلدان شمال أفريقية أيضا. ولكن لم يتمكن أي من هذه التيارات المصطنعة من قبل الغرب من الحيلولة دون تقدم زحف تيار هذه الثورة العظيمة. فقد تم القضاء على صدام، وارتفع شأن التيار الفلسطيني بفعل دعم الثورة، وبلغ حزب الله في جنوب لبنان ذروة اقتداره بالانتصار على العدو الصهيوني في أكثر من مواجهة، وتمكن من دحر الجيش الإسرائيلي إلى ما وراء الحدود اللبنانية، وكانت هذه هي أول هزيمة يمنى بها العدو الإسرائيلي بعد أن أحاط نفسه بصفة تنعته بالجيش الذي لا يقهر. وقد انتعشت المقاومة الإسلامية في العراق وسورية ولبنان وفلسطين في قبال التيار الذي أراد الغرب أن يجعل منه درعاً في مواجهة الثورة، وكان هذا الدرع يتمثل باتحاد الحكومات الموالية للغرب والولايات المتحدة الأمريكية وهو عبارة عن المملكة العربية السعودية والأردن ومصر وتونس والدول الواقعة في جنوب الخليج الفارسي، ولكن وبعد صمود الثورة الإسلامية، لم يتمكن هذا المحور من القيام بأي حماقة، وأثبت فشله حتى اكتسحه التيار المقاوم. فقد أطيح بالنظام التونسي والمصري وهو آخذ بالاتساع والقوة يوماً بعد يوم.

 

لقد كان المخطط يقضي بمحاصرة الجمهورية الإسلامية في إيران من جميع الجهات. فطالبان والقاعدة في الشرق، وحزب العدالة والتنمية بقيادة اردوغان في الشمال الغربي، وصدام ومشيخات دول الخليج الفارسي في الغرب والجنوب، وتكاتف الجميع من أجل فرض الحصار العسكري والاقتصادي والثقافي والسياسي على إيران وثورتها، إلا أنّ الثورة لم تخضع لهذا الحصار، بل انفتحت حدود هذه البلدان باتجاه الثورة، وتحوّل العراق وسورية وخاصة لبنان وفلسطين إلى قواعد للثورة الإسلامية وعقيدة وثقافة المقاومة. حتى تحوّلت مصر في الآونة الأخيرة وبعد بزوغ نجم الصحوة الإسلامية إلى قطب كبير للمطالبة بالإسلام، وامتد هذا التيار ليشمل شمال أفريقيا وليبيا وتونس واليمن، وكذلك دول جنوب الخليج الفارسي ومن بينها البحرين أيضاً.

 

 

 

•    ما هي قراءتكم بشأن هذه الصحوات والثورات؟

 

ـ نحن نعيش الآن ظروفاً أضحى فيها هذا التيار الثوري أكثر زخماً وقوّة واتساعاً من اليوم الأول، وأصبح خارجاً عن السيطرة. إنّ هذا التيار الجديد هو من نوع الثورة الإسلامية، وأنه يشترك مع الثورة الإسلامية في ذات الجذور والأسباب، ولا يمكن فصل هذا التيار عن الثورة أبداً. وبطبيعة الحال يجب على الشباب الثوري في إيران الإسلام أن يضطلع بمسؤولياته تجاه هذا التيار وهذه الصحوة الإسلامية الجديدة على نحو كامل، لکي يقوموا بواجبهم في التواصل مع الثوار وإلا فإن الغرب والعملاء الرجعيين من العرب سيتمكنون من الالتفاف على هذه الثورات والصحوات الإسلامية واحتوائها.

 

* إنّ السابقة التاريخية وتبلور وظهور هذه التيارات الإسلامية، وتأثير الثورة الإسلامية على عودة الناس إلى هويتهم الإسلامية، مفاهيم صحيحة. ولكن هناك فاصلة زمنية كبيرة بين انتصار ثورتنا الإسلامية والثورات التي قامت في البلدان العربية تقدر بما يزيد على ثلاثة عقود! فما هي أسباب هذا التأخير، وهل نستطيع بعد هذه الفاصلة الزمنية الطويلة أن ندعي تأثير الثورة الإسلامية على هذه الثورات الأخيرة؟

 

ـ إنني أعتقد أنّ مجموع ما حصل في هذه العقود الثلاثة قد أيقظ ضمائر الناس، حتى بدأ الناس يُدركون حقانية أهداف الثورة. وفي داخل البلاد قام الإمام الخميني رحمه الله وشبكة من تلامذته وأنصاره والحوزة العلمية في قم وسائر الحوزات العلمية الأخرى والمتنوّرون والجامعيون من أتباع خطّ الإمام، بتوعية الشعب الإيراني لعشرات السنين حتى وصل الشعب إلى هذه المرحلة من البلوغ، وأعطت الثورة ثمارها ونتائجها. فلم تكن مسألة انتصار الثورة لتحدث في يوم وليلة، ولا في شهر أو سنة. يقال أحياناً إنّ انتصار الثورة استغرق من شهر دي عام 1356 إلى شهر بهمن من عام 1357. غير أنّ الحقيقة هي أنّ عمر الثورة لا يقتصر على هذه السنة، بل إنّ عمر الثورة يفوق الخمسة عشر عاماً والتي يتم تحديدها من الخامس عشر من خرداد عام 1242 إلى الثاني والعشرين من بهمن عام 1357. بل يمتدّ عمر الثورة الإسلامية في إيران لأكثر من ذلك. إنّ جذور الثورة في إيران تمتد لعهد المشروطة والحركة الدستورية، بل وحتى إلى ما قبل هذا العهد أيضا. إنّ الارهاصات التي تمخّضت عنها الثورة الدستورية والمشروطة إلى حلول عصر الإمام الخميني رحمه الله، هي التي مهّدت الأرضية لانتصار الثورة الإسلامية. أي إنّ الذين شهدوا تلك الأحداث، قد أيقنوا من صدق الشعارات التي أطلقها الإمام، وأنّ النجاة والخلاص معقود بالانضواء حولها والثبات عليها. فلولا تلك الأحداث، والاستبداد أو الجرائم والخيانات التي قام بها الشاه وحاشيته، ولولا تلك العمالة المفضوحة للدول الاستكبارية، ونهب الغرب لخيرات بلادنا، ولولا التخلف الذي فرض على أبناء شعبنا، لما تحققت هذه اليقظة وهذه الصحوة الجماهيرية العارمة. إنّ مجموع هذه الأمور هو الذي جعل من خطاب الإمام رحمه الله خطاباً مفهوماً لعامة الناس، واستجابوا لنداءاته وشعاراته. كان ينبغي لمثل هذه الأحداث أن تقع في العالم الإسلامي، أي كان لا بدّ أن تمضي على العالم الإسلامي فترة، يتمّ التعرّف من خلالها على حقيقة الثورة الإسلامية الإيرانية وشعاراتها ومنظومة القيّم التي جاء بها الإمام الراحل. وهناك من جهة أخرى الأمور التي وقعت بعد انتصار الثورة الإسلامية في المنطقة والحروب التي أثارتها الولايات المتحدة الأمريكية ضد الجمهورية الإسلامية وغيرها من بلدان المنطقة، وسلوك الحكام ورؤساء البلدان الإسلامية بحق شعوبهم، وكلهم مدعوم من القوى الغربية، ابتداءً من صدام إلى شيوخ الخليج ورؤساء شمال أفريقية، وما قام ويقوم به الكيان الصهيوني من الجرائم الوحشية بحق الفلسطينيين وجميع المسلمين، وما تحقق من انتصارات للتيارات والجماعات التي تدور حول فلك الجمهورية الإسلامية ـ من قبيل الانتصارات والملاحم التي سطرها أبطال حزب الله في جنوب لبنان، والصمود الأسطوري لحركة حماس والجهاد الإسلامي في غزّة، وصمود الثورة الإسلامية الإيرانية نفسها وثباتها على شعاراتها وأهدافها ـ كلّ ذلك أدّى إلى ظهور الصحوة الإسلامية في المنطقة. لقد أدركت شعوب المنطقة أنّ الولايات المتحدة الأمريكية حاربت الجمهورية الإسلامية الإيرانية لثلاثين سنة وفرضت عليها حصاراً خانقاً، ولكن لم يكن لهذه الحروب وجميع أنواع الحصار من نتيجة سوى مزيد من التقدم وتحقيق الإنجازات في إيران وازدياد قوتها ومنعتها. إنهم رأوا بأمّ أعينهم أنّ إيران هي البلد الوحيد المستقل عن الإرادة الأمريكية، ورأوا أنّ الذنب الوحيد الذي استعدى الغرب على إيران هو إرادتها العيش باستقلال. ومن جهة أخرى شاهدوا مواقف حكامهم واستبدادهم وعمالتهم. لقد شاهد المصريون سلوك حسني مبارك ومواقفه، وشاهدوا أوضاع بلادهم المأساوية رغم الدعم الأمريكي لحسني مبارك، وكيف أنه يحالف الكيان الصهيوني في ضرب مصالح الشعب الفلسطيني والمصري على السواء! وهكذا الأمر فيما يتعلق بالنسبة إلى زين العابدين بن علي في تونس. فقد كان بن علي موالياً للغرب، وكان مستبداً، ويمنع أبناء الشعب التونسي من أبسط حقوقه وحرياته، وكان  يمنع حتى الصلاة والعبادات المباحة في جميع بقاع العالم بوصفها أمراً شخصياً، ولم يكن ليسمح بالحجاب للمسلمات في الجامعات. كما شاهدوا في ليبيا شخصاً مستبداً مثل القذافي، وكيف كان يتآمر مع أعداء الأمة لصالح الغرب وأطماعه الشخصية ضد أبناء شعبه، وكان يتعامل بالثروة النفطية وكأنها ملكاً شخصياً له، والسواد الأعظم من الشعب يعيش فقراً مدقعاً، وتخلفاً مقيتاً، وأمية سوداء، بالإضافة إلى عشرات الأزمات والمشاكل الأخرى، ولم يكن ليأذن بأيّ نشاط سياسي أو علمي لأبناء الشعب. من هنا بدأوا الاعتراض. وفي هذا الاختبار أدرك الناس حقيقتين، الأولى: صحة ما طرحته الثورة الإسلامية من شعارات في اعتبارها الولايات المتحدة الأمريكية مصدر الإجرام في العالم، وأنها لا تريد خير الشعوب، وأنّ ما يدعيه الغرب من الدفاع عن حقوق الإنسان ومساندة الشعوب مجرّد شعارات جوفاء وكاذبة. فإذا كان أوباما قد جاء إلى مصر لكي يعلن من هناك أنه صديق المسلمين، لم يكن في ذلك إلا كاذباً. وإذا كان سلفه جورج بوش يقول بأنه يريد تطبيق حقوق الإنسان في العالم، لم يكن سوى كذاب أشر. كما أنّ رؤساء فرنسا وبريطانيا وألمانيا يكذبون في ادعائهم الانتصار للحرية ولحقوق الإنسان. أي لقد ثبت للشعوب أولاً: إنّ الثورة الإسلامية الإيرانية صادقة في شعاراتها، وثانياً: ثبت لهم زيف الادعاءات الغربية الصادرة عن الزعماء في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية. ولذلك فإنّ شعوب البلدان الإسلامية لم يكونوا ينتظرون سوى الشرارة الأولى، وكان ما حدث في تونس ـ حادثة إحراق البوعزيزي لنفسه ـ هو الشرارة الأولى التي كان ينتظرها الناس، وأشعلت هذه الثورات الكبيرة. كان ما قام به هذا الشاب التونسي المظلوم بمنزلة الريح التي أثارت الرماد وأججت النار التي كانت كامنة تحتها، لتتحوّل إلى إعصار جارف من النار، ليحرق الاستبداد ويحرر الشعوب المضطهدة. ولذلك كان لا بدّ من هذا التأخير كي تصل الشعوب إلى النضج الكافي، وتدرك أنّ طريق الوصول إلى الحرية لا يكون بمواكبة الغرب، بل هو من خلال التحرر من الغرب، والتخلّص من الحكام المستبدين المدعومين من قبل هذا الغرب، وأنّ عليهم تحقيق ذلك من خلال العودة إلى القيَم الأصيلة، ومن أهمها الإسلام.

 

ولذلك رأينا في ليبيا ما أن نال الشعب حريته حتى أعلن عن مطالبته بالإسلام. وفي تونس سرعان ما ملأ الناس المساجد وأقاموا الصلاة، واختاروا في الانتخابات حزب النهضة الإسلامي. وهكذا الأمر بالنسبة إلى مصر الكنانة. وإنّ السبب في تأجيل الانتخابات في مصر والتسويف فيها وراؤه الأصابع الأمريكية، لعلمهم بأنّ الذي سيفوز في تلك الانتخابات هم الإسلاميون أيضاً.

 

وفي تركيا لم يتمكن حزب العدالة والتنمية من تحقيق الفوز في الانتخاب والوصول إلى السلطة إلا من خلال رفع الشعارات الإسلامية، وبطبيعة الحال بدأ الشعب التركي يدرك أن تلك الشعارات كانت مجرد تمويه وخداع ونفاق، وأنّ هذا الحزب ليس سوى دمية من صنع الولايات المتحدة الأمريكية، الغاية من ورائه تسهيل الوصول إلى أهدافها الإمبريالية، والسيطرة على المنطقة. والآن لا يمثّل حزب العدالة والتنمية في تركية سوى أداة بيد الولايات المتحدة الأمريكية وأوربا لتحقيق أهدافهم.

 

•    هناك فيما يتعلق بماهية حزب العدالة والتنمية اتجاهان. فهناك من يقول بأنّ هذا الحزب صنيعة أمريكية وغربية. وهناك من يقول بأنه حزب إسلامي ولكنه ينشد تحقيق المصالح التركية الاقتصادية، ولذلك فإنه يتحالف مع الولايات الأمريكية  المتحدة والغرب وحتى إسرائيل إذا اقتضى الأمر، فهو حزب براغماتي رغم إسلاميته الصادقة، فما هو رأيكم؟

 

ـ كلا، ليس الأمر كذلك، ولا يمكن للاتجاه الثاني أن يكون صحيحاً أبداً. فإنّ هذا لحزب صناعة أمريكية بحتة. فأنا مثلاً في بداية الأمر كنت حسن الظن بهذا الحزب، حتى جاءت البارقة الأولى التي حدثت من باب الصدفة عندما التقيت نجم الدين أربكان، وكنا حينها شديدو التفاؤل بحزب العدالة والتننمية، ولكننا فوجئنا بنجم الدين أربكان يقدم تحليلاً غريباً عن هذا الحزب، ويرى أنه منتج أمريكي مئة بالمئة، وأن الغاية منه ضرب التيار الإسلامي في تركيا، فهو مجرد مؤسسة استخبارية أمريكية، وكان يقول إنني أنا الذي أنشأ هؤلاء الشباب، وليس هناك من يعرف دخائل أردوغان أكثر مني! وحينها وجدنا أنّ هذا الكلام متطرّف للغاية، وأنه ناشئ من سوء الظن. حتى حصل أمرٌ، ثبت لنا من خلاله ـ بالضرس القاطع ـ أنّ هذا الحزب لا يهدف لغير المحافظة على المصالح الأمريكية في المنطقة! وإنّ ما يقوم به من التظاهر بالإسلامية أو دعم بعض التيارات الإسلامية مثل منظمة حماس، إنما يأتي في سياق إيجاد موطئ قدم للتأثير في هذه الحركات الإسلامية، والنفوذ في الشعوب المسلمة. وأما ما يقوم به حزب العدالة والتنمية التركي بقيادة أردوغان على المستوى العملي فهو تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني، والدفاع عن المصالح الأمريكية في المنطقة، ودعم التيارات التابعة للولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة. وأما الدول الواقعة في جنوب الخليج الفارسي ـ التي هي مجرّد أدوات في يد الولايات المتحدة الأمريكية ـ فهي متحالفة وقريبة جداً من حزب العدالة والتنمية، وتعمل بالتنسيق المباشر معه. الأمر الذي جعل من الكلام الذي سبق لأربكان أن قاله لنا حقيقة لا غبار عليها. وثبت لنا كيف أمكن لهذا الرجل الكبير أن يتوصل إلى حقيقة هذا الحزب من خلال صفاء سريرته وبشكل مبكر للغاية، وإننا لم نر من نجم الدين أربكان ـ في فترة حكمه التي لم تمتد طويلاً ـ سوى الصدق والإخلاص، حيث بلغت العلاقات في عهده بين إيران وتركيا ذروتها وكانت لمصلحة البلدين. في حين نشهد في عهد حزب العدالة والتنمية تنسقاً أمنياً عالي المستوى الأمني مع الولايات المتحدة الأمريكية وتبني لها قواعد صاروخية متقدمة على أراضيها لاستهداف أمننا ومصالحنا، بعد أن رفضت حتى الدول الأوربية المتحالفة مع الولايات المتحدة الأمريكية بناء هذه القواعد على أراضيها. إنّ بناء الدرع الصاروخية على الأراضي التركية يثبت قمة التبعية لأمريكا، لأنه لا يحمل أيّ خير للشعب التركي، ولا يمكن تفسيره إلا بالعمالة الرخيصة للولايات المتحدة الأمريكية. كما أنّ التآمر على النظام السوري، والتآمر الخبيث على حزب الله في لبنان، ودعم التيارات المناهضة للمقاومة في لبنان، ودعم الحكومة البحرينية، وغيرها من الحكومات الخليجية المستبدّة، كلها أدلة دامغة ومؤشرات واضحة على هذه الحقيقة. لذلك يجب أن تدرك جميع الشعوب بأنّ أردوغان وحزبه صنيعة أمريكية وأداة بيدها، ويجب أن لا ينظر إليه بوصفه مدافعاً عن شعوب المنطقة أبداً. 

 

المصدر: نصف شهرية بنجرة، العدد: 126، شهر بهمن من عام 1390ش