صفعاتٌ من العيار الثقيل لطالما تركتها كفا مركبا على وجه العدو خلال فترة الاحتلال قبل تحرير العام 2000. فلقد قضّت بحرِّها العاملي، وشهيدها الحي، وعملياتها النوعية في ساحة الحسينية، وتحت المدرسة، وعلى طريق القُبع مضاجعه، وكبدته عشرات القتلى من جنوده وضباطه حتى أخذ قراراً حاسماً بعدم الدخول إليها، موكلاً هذه المهمة إلى عملائه، وذلك بعد النكسة التي مُنيت بها نخبة ألويته «غولاني» فور نزولها إلى ساحة الحرب مدججة بحملة اعلامية مهولة أظهرت قدراتها الفائقة، لكنها لم تستطع أن تخفي الصاعقة التي تعرّضت لها في بلدة مركبا، حيث تلقت أولى الضربات الموجعة في عملية مصورة وضعت هيبة جيش العدو على المحك.‏

 

قبل تموز 2006 تلقى لواء النخبة في مركبا أول ضرباته لكنها لم تكن الأخيرة.‏

 

بلدة مركبا‏

 

القضاء: مرجعيون.‏

 

الارتفاع عن سطح البحر: 850م.‏

 

البعد عن العاصمة: 105كلم.‏

 

عدد السكان: 12000 نسمة.‏

 

حدود البلدة‏.

 

من الشمال: بلدة رب ثلاثين.‏

 

من الشرق: الأراضي الفلسطينية المحتلة.‏

 

من الغرب: بلدة بني حيان.‏

 

من الجنوب: بلدة حولا.‏

 

تزخر حكايا الوعد الصادق في بلدة مركبا بفصول وأحداث لم تبتدعها مخيلة كاتب قصصي، بل نسجتها إرادة الصمود والمقاومة التي توّجت يوميات الأهالي طوال فترة العدوان الإسرائيلي في تموز 2006.‏

 

في الأيام الثلاثة عشر الأولى شهدت البلدة حالة من الحذر والترقب فرضتها أجواء العدوان الذي تفنن في أساليب ارهابه معتمداً القصف المركز على أطراف البلدة، واجتياح أجوائها بغيوم طائراته الاستطلاعية والحربية المتلبدة في السماء. وبالرغم من قساوتها فقد فشلت هذه الأساليب في زرع الخوف والرعب في نفوس الأهالي الذين وصل عدد الصامدين منهم حتى اليوم الثالث عشر إلى حوالي ثلاثمائة شخص تشابكت معنوياتهم في سبيل اعلاء روحية التحدي والثبات.‏

 

* لا مكان للخوف‏

 

خدمة الصامدين والمجاهدين وتوفير مقومات الحياة اليومية لهم كانت الهاجس الأكبر لدى الحاجة دعد شمس الدين طوال فترة وجودها في البلدة، والتي امتدت حتى اليوم الثالث عشر. لم تكن تكتفي بإعداد الوجبات والخبز مع جاراتها، بل كانت تصر على ايصال الحصص للمجاهدين بنفسها رغم كل المخاطر التي كانت تعترضها في الطريق إليهم. لم يجد الخوف طريقاً إلى قلبها إلاّ في حالة واحدة: الخوف على المجاهدين في اليوم الذي لم تكن تتمكن فيه من رؤيتهم والاطمئنان عليهم، بعدما اتخذوا في نفسها موقع الأبناء الذين لم تلدهم.‏

 

لقد أمدّها الله بالقوة والشجاعة، وأنعم عليها بلطفه، فأنقذها من الموت ببركتهم عندما تعرضت لغارة عنيفة على الطريق أثناء إحدى مهماتها اليومية، فأصابتها بجروح وغطتها بوابل من الردم والحجارة. إلا أن يد العناية الإلهية امتدت إليها لتبعد عنها شبح الموت بأعجوبة. ورغم الحادثة التي تعرضت لها لم تكن تريد الخروج من البلدة، إلا أنّ طلب المجاهدين منها واصرارهم على ذلك دفعها إلى القبول، لكن ليس قبل أن تذهب لإلقاء السلام عليهم وتسليمهم ما في جعبتها من مال ومؤونة كانت قد جمعتها لهم.‏

 

* أربعون شخصاً في «مشتى»!‏

 

أبو أمين الخليل رجل في السبعين من العمر. في اليوم الثالث عشر للحرب ونتيجة شدة القصف وشموله أحياء ومرافق البلدة، غادر جميع أفراد عائلته المؤلفة من زوجته وأبنائه العشرة وأحفاده. أما هو فقد بقي متأبطاً عهداً قطعه على نفسه بعدم المغادرة متوكلاً على الله مسلماً بمشيئته. لم تكن وحشة الوحدة التي تسللت أطيافها متغلغلة في أرجاء المنزل لتهز من عزيمته، فقد كان يتنقل بين الغرف بحسب وجهة القصف الذي ما لبث أن حلّت عليه لعنته فأصابت المنزل بعدة ضربات اضطرته للخروج إلى وسط البلدة بحثاً عن مأمن يلوذ بأضلاعه.‏

 

وما كاد أبو أمين يستلقي على فراش الهدوء والسكينة في أحد البيوت التي لجأ إليها، حتى هبّت عاصفة هوجاء من القصف والغارات زلزلزت بضرباتها جميع البيوت التي حلّ ضيفاً فيها إلى أن وصل أخيراً إلى منزل وجد فيه مجموعة أشخاص بثت صحبتهم في رئتيه أنفاس الحياة التي كاد يفقدها أكثر من مرة.‏

 

لكن لعبة القدر لم تتوقف عند هذا الحد، بل أكملت فصولاً يروي أبو أمين تفاصيلها المحفورة في ثنايا الذاكرة: «كنت استمع إلى دردشة رفاقي الجالسين في الغرفة المجاورة حين خرق جدار مسامعي دوي انفجار كبير وقع في الغرفة التي أقف فيها. سمعت صيحتهم فصرخت بهم أن اهربوا واتركوني لكنهم أسرعوا إليّ وحملوني مصاباً في وجهي وقدمي في رحلة البحث عن الملاذ الآمن حتى استقر بنا الأمر في نهاية المطاف في «مشتى» (زريبة للمواشي). لم نكن الوحيدين الذين توجهنا إلى الزريبة فقد سبقنا إليها أكثر من أربعين شخصاً بين شيوخ ونساء وأطفال، لم يجدوا أفضل منها مكاناً يحتمون فيه بعدما تحوّلت البيوت إلى أنقاض من جراء وحشية القصف».‏

 

هنا بدأت فصول المعاناة التي اضطر أبو أمين مع شركائه الأربعين للتكيف مع قساوة ظروفها: «بغض النظر عن ضيق المكان ورائحته، كانت أرواحنا تذوب من شدة الحرارة، ووجدت فينا البراغيث ضالتها المنشودة، وعانينا من أزمة شديدة في الطعام والشراب. كنا نبل البرغل بالماء، ويحصل كل منا على مقدار صغير مع كباية صغيرة من الماء طيلة النهار. أما جراحي فقد كنت أسكب عليها السائل المطهر وألفها بغطاء النوم لمنع حصول الالتهاب فيها. كنا نسمع دوي القصف من دون أن نعلم ماذا يجري في العالم الخارجي. وكنا ننتظر زيارة شباب المقاومة التفقدية لنا لنسمع منهم آخر الأخبار وبقينا على هذه الحالة حتى يوم وقف اطلاق النار».‏

 

* الرضيع المجاهد‏

 

في أرجاء ذلك «المشتى» أيضاً كانت علياء منذر (24 عاماً ـ أم لثلاثة أطفال) تحمل مولودها الجديد وتهز له أرجوحة يديها علّه يهنأ بنوم متقطع كانت تحرمه منه أجواء المكان وظروفه التي ضاق بها الكبار ذرعاً فكيف بطفل لم ينه شهره الأول بعد؟ جفّ نصيب الطفل من الحليب بعدما جف ترياق الأم وقلبها، فلم تجد خياراً أمامها سوى الاستعانة بحليب الماعز بالرغم من حموضته الناتجة عن شدة الحرارة. كانت تعطي له الجرعة وهي تتلو ما حفظت من آيات القرآن متوسلة إلى الله تعالى بأهل بيته (ع) أن يحفظ لها وليدها من الأذى، ويتكفل برعايته وهي على درجة عالية من الثقة برحمة الله ولطفه بعدما رضيت بقسمتها من البلاء على أمل النصر الذي سيتحقق على أيدي أبطال المقاومة. عند انتهاء الحرب سارعت علياء بوليدها إلى المستشفى وأجرت له الفحوصات الطبية اللازمة وكانت الفرحة مزدوجة بالنصر على عدو الله وبنتيجة الفحص التي أكدت مناعة الطفل وسلامته من المرض والأذى.‏

 

* قصة العصفورة السوداء‏

 

في مقطع آخر من أحياء البلدة رسمت غزالة برجي مع مجموعة من جيرانها مشهداً مشابهاً مع بعض التعديلات. بعدما غادر أفراد عائلتها استضافت غزالة جيرانها لتأنس بهم في بيتها الآمن الذي لم تفكر في أن تغادره إلاّ بعدما همست لها العصفورة بذلك.

 

تحكي غزالة قصتها بلهفة وهي تعود بالذاكرة إلى تلك اللحظات: «كنت أؤدي صلاة الظهر على الشرفة حين سمعت صوت زقزقة غريبة لعصفورة تقف فوقي على السقف. وعندما جلست للتسليم نزلت العصفورة السوداء ووقفت أمامي على تربة السجود وبدأت تزعق بصوت غريب. أكملت صلاة العصر وبقيت هي تحوم حولي. وعندما انتهيت شعرت برهبة وإلهام حدثتني به نفسي أن العصفورة تريد أن تقول لنا اخرجوا من المنزل فإنه سيتعرض للقصف. خرجنا، ولدى دخولنا إلى منزل جارتنا أم جميل حمود تعرض منزلي للقصف. وكانت العصفورة قد تبعتنا، وبقيت تحوم وتزقزق في بيت أم جميل حتى خرجنا منه جميعاً في المساء، وهي برفقتنا طبعاً. وصلنا إلى بيت أم أنور فلحقتنا، وقد خرجنا منه بأعجوبة بعدما تعرض للقصف، وهكذا بقينا ننتقل من منزل إلى آخر تحت نظر العصفورة، ونظر طائرة الاستطلاع التي قصدت إبادتنا بحممها التي كانت تنزلها في كل بيت كانت ترصدنا ونحن ندخل إليه. لكن عناية الله سلمتنا من الموت أكثر من عشر مرات أثناء انتقالنا ووجودنا في تلك البيوت».‏

 

ترفع غزالة رأسها وهي تكمل حديثها بابتسامة مشرقة على محياها وتختم قائلة: «الحمد لله على كل شيء. المهم أننا حافظنا على كرامتنا وعزتنا، وخرجنا منتصرين، وبقيت رؤوسنا شامخة ومرفوعة. وها نحن ما زلنا مستعدين لأي تضحية تساند وتدعم بطولات المجاهدين الذين لا نرقى لعطاءاتهم».‏

 

* بطولات رجال الله‏

 

بعدما كان العدو قد اتخذ قراره خلال فترة الاحتلال بعدم الدخول إلى مركبا التي ذاق فيها مرارة الخسارة والهزيمة، جاءت حرب تموز لتوحي له بتغييرات ميدانية ترجح له الكفة في موازين الربح والخسارة. وظن أنه سيجد في مركبا جسراً للعبور إلى جنة النصر. لكن كما هي العادة انقلب السحر على الساحر ووقع جنوده في قبور حفروها بأيديهم.‏

 

في الحادي والثلاثين من تموز تقدمت أول قوة إسرائيلية باتجاه بلدة مركبا بعد قصف وحشي قصد تحويلها إلى منطقة محروقة يسهل التوغل فيها. كان دخول مركبا والسيطرة عليها يعني لهم تأمين الجناح الأيسر لمحور تقدمهم إلى مجرى نهر الليطاني ووادي الحجير.‏

 

وكالعادة أيضاً كان رجال الله بالمرصاد. تفاصيل المواجهات نسمعها من أحد المجاهدين الذين كان لهم شرف المشاركة والنصر:‏

 

«كانت الساعة تقارب العاشرة ليلاً في ليلة جمعة عند حصول التقدم الإسرائيلي. وما إن وصل الجنود إلى منطقة المكمن حتى دار الاشتباك الأول بين مقاومين اثنين ومجموعة مشاة إسرائيلية مؤلفة من ستة أفراد وهي قوة استطلاع أمامية لقوة تأمين خلفها مؤلفة من 40 جندياً.‏

 

سقط الجنود الستة قبل أن يطلقوا أي رصاصة. ثم جاء دور قوة التأمين التي خاض معها المجاهدون مواجهة عنيفة استشهد فيها الشهيد أحمد حمزة وأكمل المجاهد الآخر المواجهة لوحده وعلى مسافة 8 أمتار مفرغاً مخازن سلاحه في أجساد جنود العدو الذين تقهقروا إلى الوراء مخلفين وراءهم أعداداً كبيرة من الأسلحة والعتاد والجعب الممزقة والامصال وأدوات التمريض وبقع الدماء. أما المجاهد فقد رجع سالماً غانماً.‏

 

بعد سحب جيش العدو لجنوده عمد إلى قصف عشوائي وعنيف بقصد إبادة معالم البلدة حيث نسفت حارات وأحياء بأكملها. بعد أربعة أيام تجدد القصف العنيف فعرفنا أنه يمهد لتقدم عسكري جديد. بعدها نزل جنود العدو من الحارة الشرقية برفقة دبابة ميركافا من الجيل الرابع وعند وصولهم إلى نقطة المكمن فتح المجاهدون عليهم النيران مستهدفين الدبابة التي تحولت إلى هيكل محترق وجنود العدو الذين سقطوا بأكملهم بين قتيل وجريح. وقد اعترف العدو حينها بسقوط 10 قتلى له في هذه المواجهة.‏

 

لم يجرؤ العدو بعد هذا الاشتباك على التقدم داخل البلدة وبقي جنوده محاصرين في الجهة الشرقية من دون أي تحرك حتى يوم وقف اطلاق النار».‏

 

* شهداء الوعد الصادق‏

 

ـ الشهيد أحمد حمزة (من بلدة الجميجمة استشهد في مواجهة مركبا).

 

ـ الشهيد علي محمود قرياني (استشهد في زبقين ـ صور).‏

 

ـ الشهيد حسن محمود حمود (استشهد في تلة مسعود ـ بنت جبيل).‏

 

ـ الشهيد شاكر علي صالح (استشهد في البقاع).‏

 

ـ الشهيدان حيدر أيوب زراقط وخضر إبراهيم رغدا (استشهدا في الطيري في يوم وقف اطلاق النار).‏

 

‏ـ الشهيد المدني أحمد عبد الكريم حمود (استشهد بغارة إسرائيلية على البلدة).‏

 

في يوم الانتصار، كان صباح مركبا جميلاً جداً، فقد أشرقت الشمس عليها وهي تنفض عنها غبار الوحشية والدمار لتأنس بطلّة الصامدين الخارجين من عتمة ملاجئهم وفرحة العائدين بعد الغياب القسري ليعزفوا معاً أهازيج الفرح والسرور على قيثارة النصر الذي صدق وعده.‏