الأقحوان يغطي جانبي الطريق وسفح التل، وتبرز نتوءات صخرية وبقع خضراء متناثرة توحي كأن التراب والصخر زرع فوق أرض أقحوانية اللون والشذى.

 

والمسافة بين بنت جبيل* والجليل الاعلى* اثقلها العبء، والأنواء تقوس ظهري... كنت أعتقد أن تلك المسافة زائدة...

 

نظرت تجاه الغرب ـ لم تكن الشمس في مكانها المألوف في مثل هذه الايام من شباط، كانت تحتمي خلف جبال الجليل الشاهقة، ويبدو المنظر حاضراً في داخلي كأن الشمس طارت من فوهة قلبي والجليل انتصب أمامها من وجدان بتول شمس ذلك المساء، فتاة تسترق النظر وتختلس من لحظة الحبيب بعضاً من كبرياء غض.

 

و بانحدار الجبل نحو سهل عيترون * أخذنا المدق الضيق وبدت الشمس تهبط جهة الغرب كطائر أُصيب في صدره وهوى تاركاً خيوطاً من دم.

 

و الفراشات الخارجات من الشرانق تتداخل ألوانها بعذوبة لا تتكرر، كاللحظة تموت في الولادة.

 

وقع أقدامنا خدش سكونها وصفاء وحدتها، وحركت بطيرانها البطيء والمنخفض حشرات تتطفل على الأقحوان.. ويكبر ظل الجليل زاحفاً على البساط الممتد من تحت قدميه حتى قدمي، مرتفعات مرجعيون * آخذ بالصعود الى سفوح مرتفعات الجولان.

 

لم أستطع لجم مشاعري، وأطلقت العنان للمخزون في ذاكرتي، لحديث والدي، كيف طردنا من بلدتنا، كان زماناً ربيعياً، تتشابه الأزمنة، والأمكنة لا بد أن تكون متشابهة..

 

سفح الكرمل مثل هذي السفوح والإنسان هو ذاته الإنسان.. كنت دائماً اسأل والدي وفي داخلي حنين يبعث شياطين الرعب على خاصرة كلماته، لماذا رحلنا، وكنت لا أجد جواباً للسؤال.

 

كنت أحس أن الموت قادم مع كل لحظة، ولم أكن قادراً على النظر للخلف، كأن آلاف السنين حملتني في رحمها، تدفعني الى الامام فقط.

 

و فجأة قال من كان يرافقني:

 

تعال نجلس جانب الصخرة تلك وأضاف:

 

أنت فلاح هل تعرف أسماء الأعشاب في هذاالسفح؟

 

نظرت في عمق عينيه محاولاً الوصول الى ما يرمي..

 

كأن آلاف السنين التي حملتنا في رحمها والقت بنا الآن وبدت ألوانها تبهت مثل شجرة كرز لون ثمارها طغى على ألوان الورق والأغصان..

 

اللحظة هي ما تكون لا سواها، هكذا بدا لي قبل أن أقول:

 

- نعم.. أعرفها وأتذوقها وألتهمها بنهم.

 

- سؤاله من أكثر الأصدقاء قرباً منك؟

 

حرك السكون في وجداني وبدت صورة (أمي) تتجسد أمامي إنساناً حاضراً.

 

***

 

في الصباح، توسعت حدقات عينيها، تحاول احتواء صورة وجهي، لم تكن تعرف وجهة سفري، والخوف انسدل ستارة على وجهها، كانت تحاول الامساك بي متلبساً.

 

- متى تعود؟

 

- كنت قد كذبت على أمي. أنا مسافر لصيدا عند أخوتي..

 

و قبلت يدها بهدوء وسرى رجفان حذر في شفتيّ، حاولت لإخفاء جرحي من سؤالها، إني أحبها ومن يحب لا يكذب، إذن سأقول لها شيئاً يشبه الحقيقة، وبدا لي موقفي ضعيفاً.

 

نظرت الى شجرة التين، كانت أوراقها المائل لونها الى الزرقة وحبات التين في أول تشكيلها شاهداً على أول لقاء لنا، وهل تكون شاهداً هذاالعام على آخر لقاء؟

 

- لماذا نحرك السكون؟

 

- لماذا نضغط على الجرح؟

 

و فجأة قالت: أين سرح خيالك؟ قل متى تعود؟

 

- بعد أيام..

 

مثل من يلاحقه غزالاً في صحراء، كانت صورتها تهرب عندما قال:

 

- ها ما بك؟

 

- لا شيء دع الغد للغد، الكل أصدقاء، كأنه أدرك ما أرمي إليه، ماذا سيقول أبي؟

 

هل سيقول احترق بلهيب الغربة وصعد الى السماء؟

 

و قبل أن نذوب في عناق الوداع الذي ربما يكون الأخير قال:

 

- هل لك ما تقوله؟

 

- أتعني وصية؟

 

- نعم؟؟...

 

- لا وصية لوارث. الكل يرث دمي..

 

تعانقنا بحرارة، شموس لم ألحظها من قبل، وقبل أن نتوحد مع العتمة، قال لي صديقي:

 

- ماذا قلت له؟ قلت له وصيّة؟

 

إذا سمعت نبأ يحمل عطراً اشرب نخب صعودنا الى الرب وعندما ذبنا في الليل، وبدأ نباح كلاب القرية بالاقتراب، أمسكت يده كي لا يسقط التفت إليّ وقال:

 

اشرب نخب صعودنا الى الرب أيضاً...

 

ــــــــــــــــ

 

* بنت جبيل / عاصمة الجنوب المقاوم.

 

* عيترون قرية في الجنوب المحرر.

 

* مرجعيون مدينة في الجنوب المحرر.