عناوين المقالات:

1- من كلمات الإمام الخميني (قدس) في ذكرى مولد الصديقة الزهراء عليها السلام.

2- ولادة قدوة النساء. 3- الزهراء (ع) ودور المرأة في المجتمع الصالح. 4- الإمام الخميني وحقوق المرأة في الإسلام 5- المرأة المسلمة في مواجهة الطاغوت. 6- الإمام الخميني والمرأة.. النظرية والتطبيق. 7- يزخر تاريخ البشرية بظلم لا حدود له. 8- الأسرة في سيرة الإمام الخميني (قده).

9- رؤى الإمام الخميني (قده) وسلوكه الأسري.

*

*

*

من كلمات الإمام الخميني (قدس) في ذكرى مولد الصديقة الزهراء عليها السلام

2007-09-05

 يوم فخر المرأة

إذا كان لا بد من يوم للمرأة, فأي يوم أسمى وأكثر فخراً من يوم مولد فاطمة الزهراء السعيد... المرأة التي هي مفخرة بيت النبوة, وتسطع كالشمس على جبين الإسلام العزيز..

المرأة التي تماثل فضائلها فضائل الرسول الأكرم وآل بيت العصمة والطهارة غير المتناهية.. المرأة التي يعجز كل من عرفها ومهما كانت نظرته, عن إيفائها حقها من المدح والثناء, لأن الأحاديث التي وصلتنا عن بيت النبوة هي على قدر فهم المخاطبين واستيعابهم, فمن غير الممكن صب البحر في جره, ومهما تحدث عنها الآخرون فهو على قدر فهمهم ولن يبلغ منزلتها.

من كلمة بمناسبة يوم المرأة بتاريخ 5/5/1980م.

تضاهي كل الرجال

إنه يوم عظيم.. يوم أطلت على الدنيا امرأة تضاهي كل الرجال.. امرأة هي مثال الإنسان.. امرأة جسدت الهوية الإنسانية كاملة, فهو إذن يوم عظيم, يومكن أيتها السيدات.

من حديث في جمع من النساء بتاريخ 17/5/1980م.

حقيقة الإنسان الكامل

 غداً يوم مولد الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء, يوم المرأة.

إن مختلف الأبعاد التي يمكن تصورها للمرأة, وللإنسان, تجسدت في شخصية فاطمة الزهراء. لم تكن الزهراء امرأة عادية, بل كانت امرأة روحانية وملكوتية.. كانت إنسانا بتمام معنى الكلمة .. نسخةً إنسانية متكاملة.. امرأة حقيقة كاملة.. حقيقة الإنسان الكامل. لم تكن امرأة عادية , بل هي كائن ملكوتي تجلى في الوجود بصورة إنسان.. بل كائن إلهي جبروتي ظهر بصورة امرأة. فغداً يوم المرأة, التي اجتمعت فهيا كل الخصال الكمالية المتصوَّرة للإنسان, وللمرأة, المرأة التي تتحلى بجميع خصال الأنبياء.

المرأة التي لو كانت رجلاً لكانت نبياً.. لو كانت رجلاً لكانت بمقام رسول الله. غداً يوم المرأة.. حيث ولدت جميع أبعاد منزلتها وشخصيتها, غداً ذكرى مولد الكائن الذي اجتمعت فيه المعنويات, والمظاهر الملكوتية, والإلهية, والجبروتية, والملكية والإنسية..

 فهي إنسان بتمام معنى الإنسانية, وامرأة بكل ما تعنيه المرأة من معنى إيجابي.

إن المرأة تتسم بأبعاد مختلفة كما هو الرجل, وأن هذا المظهر الصوري الطبيعي يمثل أدنى مراتب الإنسان: أدنى مراتب المرأة وأدنى مراتب الرجل, بيد أن الإنسان يسمو في مدارج الكمال انطلاقا من هذه المرتبة المتدنية, فهو في حركة دؤوبة, من مرتبة الطبيعة إلى مرتبة الغيب, إلى الفناء في الإلوهية, وأن هذا المعنى متحقق في الصديقة الزهراء, التي انطلقت في حركتها من مرتبة الطبيعة وطوت مسيرتها التكاملية بالقدرة الإلهية, بالمدد الغيبي, وبتربية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, لتصل إلى مرتبة دونها الجميع.

إذاً في مثل غدٍ تحققت مختلف الأبعاد الممكن تصورها للمرأة, وظهرت المرأة إلى الوجود بتمام معناها, فغدا يوم المرأة حقا.

من كلمة بمناسبة يوم المرأة بتاريخ 16/6/1979م.

من أحضان المرأة ينطلق الرجل

يوم عظيم, واجتماع كبير, ومكان مبارك.

يوم عظيم يوم مولد الزهراء المرضية .. يوم المرأة, يوم انتصار المرأة, يوم المرأة المثال. تحظى المرأة بدور عظيم في المجتمع.. المرأة مظهر تحقق آمال البشرية.. المرأة مربية النساء والرجال المحترمين.. من أحضان المرأة ينطلق الرجل في عروجه.

أحضان المرأة مهد تربية نساء ورجال عظام.

يوم عظيم. يوم أطلت على الدنيا امرأة إزاء كل الرجال.. امرأة أطلَّت على الدنيا هي مثال الإنسان.. امرأة أطلَّت على الدنيا لتجسد الهوية الإنسانية كاملة.. فهو إذاً يوم عظيم يومكن أيتها النساء.

لقد برهنت نساء عصرنا أنهن في الجهاد على قدم المساواة مع الرجال, بل في طليعتهم.. هذه السيدات المحجبات.. هذه النسوة اللاتي هي مظهر العفاف.. كن في الصفوف الأمامية من النهضة, كما أنهن كن سباقات في الإيثار بأموالهن, إذ قدمن حليهن ومجوهراتهن هدية للمستضعفين.

والمهم في كل هذا تلك النية الخالصة.

قد أنزل الله تبارك وتعالى آيات بحق علي وأهل بيته (عليهم السلام) وقد وردت في تفسير الكشاف رواية عن ابن عباس قال: ( مرض الحسن والحسين يوماً, فنذر الإمام علي وفاطمة الزهراء إذا ما شفي طفلاهما يصومان ثلاثة أيام.. وبعد أن شفيا, وبينما هما صيام ينتظران الإفطار, طرق الباب مسكين يطلب طعاما, فآثر أهل بيت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المسكين على أنفسهما وقدما له إفطارهما, ولم يتناولا تلك الليلة غير الماء. وفي اليوم الثاني جاء يتيم فقدما له طعامهما. وفي اليوم الثالث جاء أسير وكررا معه ما فعلاه في الليلتين الماضيتين. في صباح اليوم الرابع لما رآهما الرسول الأكرم (ص) بهذه الحال قال: يصعب عليَّ أن أراكم بهذه الحال. لحظتها نزال جبرائيل ملك الوحي. بهذه الآية من سورية الدهر ـ الإنسان ـ : ( ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا)). وخاطب الرسول بأن خذ هذه السورة يهنئك الله على أهل بيتك هؤلاء, لأنهم تصدقوا بأقراص من الرغيف, ولكن الله سبحانه لم يوحِ بآياته من أجل أقراص الرغيف, بل لأنها كانت بنية صادقة.. لأنها كانت خالصة لوجه الله.

إن قيمة الأعمال بأبعادها المعنوية, وأن قيمة أعمال أخواتنا اللاتي ساهمن في أحداث النهضة كانت أعظم من قيمة أفعال الرجال, إذ خرجن بحجاب العفاف من وراء الحجب, وهتفن بصوت واحد مع الرجال وحققن النصر.. اليوم أيضا جئن بنوايا خالصة يقدمن إلى المحرومين ما ادخرنه أيام عمرهن.

إن لهذا العمل قيمته, ولن يبلغها الأثرياء وإن أعطوا الملايين.

 من كلمة في جمع من النساء بمناسبة يوم المرأة تاريخ 17/5/1979م.

اطلبوا العلم

احرصوا على أن تظهرن بالصورة التي كانت عليها الصديقة الزهراء, واجتهدن في كسب العلم والتقوى, لأن العلم لا يقتصر على أحد, بل هو ملك للجميع, كما أن التقوى ملك للجميع.

إن طلب العمل والتقوى وظيفتنا جميعا.

وأنا أرجو أن تتعاون الأجهزة الحكومية مَعَكُنَّ, وأن تضع في متناول أيديكنَّ جميع الوسائل اللازمة لإغناء ثقافتكن.. وآمل أن تَكُنَّ موفقات ومسددات في جميع المجالات.

من كلمة بمناسبة يوم المرأة بتاريخ 12/3/1985م.

اقتدوا بالزهراء

ينبغي الاقتداء بزهدها وتقواها وعفافها وجميع الخصال التي اتصفت بها.

يجب اتباع سيرتها إذا ما آمنتنَّ بهذا اليوم.

أما إذا تقاعستنَّ عن اتباعها, فيجب أن تعلمن أنكنَّ لم تعشنَّ يوم المرأة.

إنكنَّ, وأي شخص آخر, لن تدخلوا في يوم المرأة , ولا تنالوا هذا الشرف ما لم تؤمنوا بهذا الأمر.

وأنا آمل أن تؤمن بذلك, وأن تجاهدن من أجل هذه المسؤوليات التي تتحملنَ أعباءها, سواء في ميدان اكتساب العلم,. الذي هو أمر مهم, أو في ميدان الدفاع عن الإسلام.

فهذه أمور واجبة على كل رجل وامرأة صغيراً وكبيراً.

من كلمة بمناسبة يوم المرأة بتاريخ 12/3/1986م.

**************

ولادة قدوة النساء

2007-09-05

إنّ الإنسان كلّما فكّر وتدبّر أكثر في أحوال الزهراء الطاهرة (ع) يحتار أكثر، وحيرة الإنسان ليست ناجمة عن كيفية تمكّن هذا الكائن الإنساني من نيل هذه الرتبة من الكمالات المعنوية والمادّية في سنين الشباب ـ وهي بالطبع حقيقة تثير الحيرة أيضاً ـ بل من القدرة العجيبة التي استطاع الإسلام بها أن يبلغ بتربيته الرفيعة الى درجة تُمكِّن إمرأة شابّة كسب هذه المنزلة العالية في تلك الظروف الصعبة. فعظمة هذا الكائن وهذا الإنسان الرفيع تثير العجب والحيرة وكذلك عظمة الرسالة التي أظهرت هذا الكائن عظيم القدر وجليل المنزلة.

ولدت بنت النبي (ص) الكريمة في السنة الخامسة للبعثة طبقاً للقول المشهور، وعلى هذا فإن عمر فاطمة الزهراء (ع) حين الاستشهاد كان 18 عاماً. وقيل انّ ولادة هذه السيّدة الكريمة كانت في السنة الثانية أو السنة الاُولى للبعثة، فيكون الحدّ الأكثر لعمرها 22 أو 23 عاماً. ولو أخذتم جميع القيود التي يمكن أن تحيط بالمرأة (خاصّة في تلك الفترة حيث كانت القيود أكثر). فعند ذلك ترون العظمة التي أثبتتها هذه السيدة المكرّمة في تلك الظروف وخلال هذا العمر القصير، وبالطبع إنّني لا أتمكّن أن أتكلّم عن الجوانب المعنوية والروحية والإلهية لتلك السيدّة الكريمة، فأنا أصغر من أن أدرك تلك الاُمور، وحتّى لو استطاع شخص إدراك ذلك، فإنّه لا يستطيع وصفها وبيانها كما هو حقّها، فتلك الجوانب المعنوية هي عالم آخر. وقد روي عن الإمام الصـادق (ع) انّه قال: «انّ فاطـمة كـانت مُحـدَّثة» أي أنّ الملائكة كانت تنزل عليها وتأنس معها وتحدّثها. وهناك روايات عديدة في هذا المجال. وإنّ كونها محدّثة لا يختصّ بالشيعة فقط، فالشيعة والسنّة يعتقدون أنّه كان هناك أشخاص في صدر الإسلام ـ أو من الممكن وجودهم ـ كانت تحدّثهم الملائكة، ومصداق هؤلاء في رواياتنا هي فاطمة الزهراء(ع). وقد ورد في هذه الرواية عن الإمام الصادق(ع) بأنّ الملائكة كانت تأتي فاطمة الزهراء(ع) وتتحدّث معها وتقرأ عليها آيات اللّه. وكما انّ هنـاك تعبير في القرآن حول مريم(ع) في الآية{إنّ اللّه اصطفاك وطهّرك واصطفاك على نساء العالمين}فإن الملائكة كانت تخاطب فاطمة الزهراء(ع) وتقول: «يا فاطمة إنّ اللّه اصطفاك وطهّرك واصطفاك على نساء العالمين». ثمّ يقول الإمام الصادق(ع) في هذه الرواية بأنّ الملائكة في إحدى الليالي كانت تتحدّث مع فاطمة(ع) وكانت تذكر هذه العبارات، فقالت فاطمة الزهراء(ع) لها: «أليست المفضّلة على نساء العالمين مريم» فقالت الملائكة لفاطمة الزهراء (ع): بأنّ مريم كانت المفضّلة على النساء في زمانها وفاطمة مفضّلة على النساء في كلّ الأزمنة من الأوّلين والآخرين. فأيّ مقام معنوي رفيع هذا؟ إنّ الإنسان العادي مثلنا لا يمكنه أن يتصوّر في ذهنه هذه العظمة والدرجة.

وقد روي عن أميرالمؤمنين(ع) أنّ فاطمة الزهراء(ع) قالت له بأنّ الملائكة تأتي وتتحدّث معها وتقول لها بعض المسائل. فقال لها أمير المؤمنين(ع) بأنْ تخبره عندما تسمع صوت الملك حتّى يكتب ما تسمع، فكتب أميرالمؤمنين ما أملته الملائكة على فاطمة الزهراء(ع) وأصبح هذا كتاباً موجوداً لدى الأئمة(ع) اسمه (مصحف فاطمة) أو (صحيفة فاطمة).

وقد جاء في روايات عديدة أنّ الأئمة عليهم السلام كانوا يراجعون (مصحف فاطمة) في مسائلهم المتنوّعة، ثمّ قال الإمام (ع): «إنّه ليس فيها حلال وحرام، فيها علم ما يكون)، فأيّ علم رفيع هذا؟ وأيّة معرفة وحكمة ليس لها نظير هذه التي أعطاها اللّه تعالى لإمرأة في سنيّ الشباب؟ هذا هو المقام المعنوي للزهراء (ع).

إنّ هذه المسائل المعنوية لها ارتباط كبير بالفضائل العملية، ارتباط بما ينجم عن جهد فاطمة الزهراء (ع) وهذا المقام لا يعطى مجّاناً وبلا سبب. فعمل الإنسان له تأثير كبير في إحراز الفضائل والمناقب المعنوية.

البنت التي ولدت في لهيب الجهاد المرير للنبي (ص) في مكّة، والتي أعانت أباها وواسته في شعب أبي طالب، كانت فتاة عمرها حوالي 7 ـ 8 سنوات أو أقل أو أكثر بعدة سنوات (حسب اختلاف الروايات)، ومع ذلك تحمّلت تلك الظروف، مَنْ الّذي يرفع عن وجهها غبار الهمّ في تلك الظروف حيث توفّيت خديجة وأبو طالب والنبي لوحده بلا مواس، والجميع كانوا يلوذون به؟ فلا خديجة ولا أبو طالب، في تلك الظروف الصعبة، وفي ذلك الجوع والعطش والبرد والحر الذي استمرّ ثلاث سنوات في شعب أبي طالب (وهي من الفترات الصعبة في حياة النبي «ص») حيث كان يعيش عدد من المسلمين في شقّ جبل وهم في حالة إبعاد إجباري، في تلك الأحوال تحمّلت هذه الفتاة المشاكل فكانت كالمنقذ للنبي (ص)، واُمّ لأبيها، وممرضة عظيمة لذلك الإنسان العظيم. فقد واست النبي (ص) وتحمّلت العناء وعبدت اللّه وعزّزت إيمانها وهذّبت نفسها وفتحت قلبها للمعرفة والنور الإلهي. وهذه هي الاُمور التي توصل الإنسان الى الكمال.

وبعد الهجرة؛ وفي بداية سنين التكليف تزوّجت فاطمة الزهراء(ع) من علي بن أبي طالب (ع). ولعلّكم جميعاً تعرفون البساطة وحالة الفقر التي مرّت بها فاطمة الزهراء (ع) بعد زواجها وهي بنت الشخص الأوّل في العالم الإسلامي، والحاكم على اُولئك الناس.

إنّ حياة فاطمة الزهراء (ع) في جميع الأبعاد كانت مليئة بالعمل والسعي والتكامل والسمو الروحي للإنسان، وكان زوجها الشاب في الجبهة وميادين الحرب دائماً، وكانت مشاكل المحيط والحياة قد جعلت فاطمة الزهراء (ع) مركزاً لمراجعات الناس والمسلمين. وقد أمضت البنت المعينة للنبي (ص) حياتها بمنتهى الرفعة في تلك الظروف، وقامت بتربية أولادها الحسن والحسين وزينب وإعانة زوجها علي (ع) وكسب رضى أباها النبي (ص)، وعندما بدأت مرحلة الفتوحات والغنائم لم تأخذ بنت النبي ذرّة من لذائذ الدّنيا وزخرفها ومظاهر الزينة والاُمور التي تميل لها قلوب الشابّات والنساء. وكانت عبادة فاطمة الزهراء (ع) عبادة نموذجية، يقول الحسن البصري الذي كان أحد العبّاد والزهّاد في العالم الإسلامي حول فاطمة الزهراء (ع) بأنّ بنت النبي عبدت اللّه ووقفت في محراب العبادة الى درجة (تورَّمت قدماها)، ويقول الإمام الحسن المجتبى (ع) بأنّ اُمّه وقفت تعبد اللّه في إحدى الليالي حتّى الصبح (حتى انفجر عمود الصبح). ويقول الإمام الحسن (ع) انّه سمعها تدعو دائماً للمؤمنين والمؤمنات، وتدعو للناس وتدعو للمشاكل العامّة للعالم الإسلامي، وعند الصباح قال لها: «يا اُمّاه أما تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك، فقالت: يا بنيّ الجار ثمّ الدار».

إنّ جهاد تلك المكرّمة في الميادين المختلفة هو جهاد نموذجي، في الدفاع عن الإسلام وفي الدفاع عن الإمامة والولاية، وفي الدفاع عن النبي (ص) وفي المعاشرة مع أكبر القادة الإسلاميين وهو أميرالمؤمنين الذي كان زوجـها. وقد قال أمـيرالمؤمنين (ع) مرّة بشأن فاطمة الزهراء (ع): «ما أغضبتني ولا خرجت من أمري». ومع تلك العظمة والجلالة، فإن فاطمة الزهراء (ع) كانت زوجة في بيتها، وإمرأة كما يقول الإسلام، وعالمة رفيعة في محيط العلم. وعن الخطبة التي قالتها فاطمة الزهراء(ع) في مسجد المدينة بعد رحلة النبي(ص) قال العلاّمة المجلسي: إنّ على كبار الفصحاء والبلغاء والعلماء أن يجلسوا ويوضّحوا كلمات وعبارات هذه الخطبة.فقد كانت قيّمة إلى هذه الدرجة. ومن حيث الجمال الفنّي فإنّها كانت مثل أجمل وأرفع كلمات نهج البلاغة وفي مستوى كلام أمير المؤمنين(ع). ذهبت فاطمة الزهراء(ع) ووقفت في مسجد المدينة وتكلّمت ارتجالاً أمام الناس حوالي ساعة كاملة بأفضل وأجمل العبارات وأصفى المعاني. هكذا كانت عبادتها وفصاحتها وبلاغتها وحكمتها وعلمها ومعرفتها وحكمتها وجهادها وسلوكها كزوجة وكاُمّ، وإحسانها الى الفقراء. فمرّة أرسل النبي(ص) رجلاً عجوزاً فقيراً الى بيت أميرالمؤمنين(ع) وقال له أن يطلب حاجته منهم، فأعطته فاطمة الزهراء (عليها السلام) جلداً كان ينام عليه الحسن والحسين حيث لم يكن عندها شيئاً غيره، وقالت له أن يأخذه ويبيعه ويستفيد من نقوده. هذه هي شخصية فاطمة الزهراء(ع) الجامعة للأطراف. إنها اُسوة للمرأة المسلمة.

قبس من نور الزهراء

إنّ كل ما نقوله حول الزهراء عليها السلام قليل، وفي الحقيقة إنّنا لانعلم ما يجب قوله في الزهراء عليها السلاموما يجب التفكير فيه، فالأبعاد الوجودية لهذه الحوراء الإنسية والروح الخالصة وخلاصة النبوة والولاية، واسعة ولا متناهية وغير قابلة للإدراك وهي بصورة بحيث يتحيّر الإنسان فيها.

فكما تعلمون فإن المعاصرة تعتبر من الأمور التي تمنع الإنسان من معرفة الشخصيات بصورة جيدة، فغالباً لم تعرف النجوم الساطعة في عالم البشرية في حياتها من قبل معاصريهم، إلاّ من ندر من العظام كالأنبياء والأولياء، وهؤلاء أيضاً عرفوا من قبل أفراد معدودين فقط. إلاّ ان فاطمة الزهراء عليها السلام كانت في عصرها بصورة بحيث لم يمتدحها أبوها وبعلها وبنوها وخواص شيعتهم فحسب، بل انها كانت تُمتدح حتى من قبل اُولئك الذين لم تكن لهم علاقات سليمة معها. انظروا إلى الكتب التي اُلفت حول الزهراء عليها السلام أو حول كيفية تعامل النبي مع هذه العظيمة، فقد رويت من قبل الذين أشرنا إليهم كزوجات النبي والآخرين، فهذه الرواية المعروفة عن عائشة أنها قالت: “والله ما رأيت في سَمْتهِ وهَدْيِهِ أشبه برسول الله صلى الله عليه وآله من فاطمة، وكان إذا دخلت على رسول الله قام إليها” أي أنه صلى الله عليه وآله كان يقوم من مكانه ويتحرك نحوها بكل شوق، هذا معنى “قام إليها” ، وليس معناه أنه إذا دخلت الزهراء عليها السلام قام أمامها النبي صلى الله عليه وآله، كلا ، قام وذهب إليها، وفي بعض الروايات المروية عن عائشة أيضاً جاء هكذا “وكان يقبّلها ويجلسها مجلسه”.

هذه هي منزلة الزهراء عليها السلام، فماذا يقول الإنسان حول ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله؟ وماذا يقول حول هذا الموجود العظيم؟

إن نجم عالم الخلق الزاهر ليس بالذي نراه ونتصوّره، بل هو أعظم من هذا بكثير، اننا نرى نور شخصية الزهراء عليها السلام، لكنّها أعظم من هذا بكثير. إذا ماذا نستفيد نحن منها؟ بهذا القدر الذي نعرف فيه أنّها الزهراء عليها السلام. لقد قرأت هنا في أحدى المرات الرواية التي تقول: “أنها تظهر لأهل السماء”، فنحن لا شيء أمام هذا النور، فالكروبيون [الملائكة المقربون] في الملأ الأعلى تنبهر عيونهم من نور الزهراء عليها السلام. فيجب علينا الاهتداء بها إلى الله وإلى طريق العبودية، وإلى الصراط المستقيم. فالزهراء عليها السلام قد سلكت هذا الطريق فأصبحت الزهراء، وإن رأيتم أن الله قد جعل طينتها طينة متعالية؛ لأنه كان يعلم أنها تخرج مرفوعة الرأس من الإمتحان في عالم المادة والناسوت [الطبيعة الإنسانية] “امتحنك قبل أن يخلقك فوجدك لما امتحنك صابرة”، فالباري سبحانه وتعالى قد أَلطَف على تلك الطينة وجعلها متعالية؛ لأنه كان يعلم انها تخرج مرفوعة الرأس من الإمتحان، والاّ فالطينة الطيبة كانت كثيرة، لكن هل تمكّن الجميع من الصبر على الإمتحان.

 ولادة الزهراء (ع) عيد من أعياد الإسلام

أُهنّئ جميع الحضور الكرام والمسلمين كافة وخاصة النساء في هذا البلد الإسلامي بالولادة السعيدة لكوثر النور والمعرفة، الصديقة الطاهرة المرضية المطهرة فاطمة الزهراء سلام اللّه عليها. هذه الولادة الكبرى من أبرز الأعياد الإسلامية؛ لأن فاطمة الزهراء سلام اللّه عليها شخصية عظيمة من المرتبة الأولى في الإسلام، بل من المرتبة الأسمى على مدى التاريخ، كما نقل عن رسول اللّه (عليه وعلى آله الصلاة والسلام) انه قال لها: «أما تحبي أن تكوني سيّدة نساء العالمين؟» فسألته سلام اللّه عليها: «فكيف مريم؟» وقد قال القرآن انها سيّدة النساء، فقال لها: ان مريم كانت سيّدة نساء زمانها، وأنتِ سيّدة نساء الأولين والآخرين.

ولو توضحت شخصية فاطمة الزهراء سلام اللّه عليها لأذهاننا البسيطة وأنظارنا التي لا تبصر إلاّ القريب، لآمنّا نحن أيضاً انها سلام اللّه عليها سيّدة نساء العالم أجمعين. إنّها المرأة التي بلغت في عمرها القصير مراتب معنوية وعلمية توازي مراتب الأنبياء والأولياء.

والواقع ان فاطمة فجر ساطع انبلجت من جنبه شمس الإمامة والولاية والنبوّة، وهي سماء عُليا ضمت بين جوانحها كواكب الولاية الوضّاءة. وكان الأئمة عليهم السلام بأجمعهم يولونها تكريماً واحتراماً قلما كانوا يولونه لشخص آخر.

وعلى هذا الأساس، فهذا عيد إسلامي وعيد بشري ويحمل لشعبنا على وجه الخصوص بُعداً أساسياً، وذلك أنّ نساء بلدنا قد جعلن من فاطمة الزهراء سلام اللّه عليها عبر استشراف حياتها ومعرفتها ومجاهدتها وكلماتها الحكيمة منهجاً ومساراً، جعلنه نصب أعينهن وسرنَ من خلاله، ويجب عليهن السير فيه أكثر فأكثر.

**************

الزهراء (ع) ودور المرأة في المجتمع الصالح

2007-09-05

 محمد حكيم

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه الكريم {إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً}[1].

يتركّز الحديث حول الواجبات والمسؤوليات التي يمكن للمرأة أن تضطلع بها في كل وقت، سواء من ناحية الظروف التي تحيط بواقعنا الراهن، أو ناحية النصوص القرآنية وتلك التي وردت في السنّة النبوية المطهرة، والتي يكاد يجمع على مضمونها المسلمون جميعاً مع قطع النظر عن تفاصيل تلك المضامين في هذا النص أو ذاك.

في مجمل النصوص الواردة في موضوعنا هذا، نرى أن الإسلام أكد كثيراً على شخصية فاطمة الزهراء (ع) ودورها الكبير في الحياة الإسلامية، فمن خلال آية التطهير مثلت الزهراء (ع) المحور في هذه الآية الكريمة، فهي ابنة رسول الله (ص) وزوجة الإمام علي أمير المؤمنين (ع)، وأم الحسنين (ع)، وهؤلاء الخمسة هم الذين نزلت فيهم آية التطهير هذه، وأكدها رسول الله (ص) لأمته في تلاوته (ص) لها مرات عديدة على مسامع صحابته، حين كان يطرق باب فاطمة الزهراء (ع) في رواحه ومجيئه من المسجد أو في ذهابه وإيابه من السفر، أو في المناسبات المختلفة، كان يطرق (ص) الباب على فاطمة الزهراء وهو يتلو {إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً}.

هذا هو نوع من أنواع التأكيد على شخصية الزهراء (ع) المباركة، وكان الحال في آية المودة وآية القربى، وسورة الدهر، وآية المباهلة، وغيرها من الآيات التي تتحدث عن أهل بيت النبي (ص)، نجد فاطمة الزهراء (ع) هي المحور لكل هذه المضامين، فعندما نتحدث عن المودة في قربى النبي (ص) نجد أن الزهراء (ع) هي أقرب الناس إليه (ص)، وهكذا في جميع المناسبات.

وتأتي الأحاديث الشريفة الواردة عن النبي الأكرم (ص)، والتي رواها وأثبتها الفريقان من الشيعة والسنة، تؤكد ذلك بحيث لا يضاهيه تأكيد ورد عن الرسول (ص)، إلاّ ما ورد عنه (ص) في التأكيد على منزلة ودور بعلها علي (ع)، ومكانة ابنيها الحسن والحسين (ع).

فنجد رسول الله (ص) يقول: "إن الله ليغضب لغضب الزهراء ويرضى لرضى الزهراء"، و "الزهراء سيدة نساء العالمين"، "فاطمة منّي يرضيني ما أرضاها ويغضبني ما أغضبها"، إلى غير ذلك مما جاء عن رسول الله (ص) في مقام التأكيد على هذه الشخصية. 

تأكيد الرسول (ص) على شخصية الزهراء (ع)

هذا الأمر في الحقيقة يثير سؤالاً كبيراً هو: لماذا قام رسول الله (ص) بهذا القدر الكبير من التأكيد على شخصية الزهراء (ع)؟.

قد يفهم الإنسان منذ البداية سبب التأكيد الوارد من رسول الله (ص) على شخصية الإمام علي (ع); باعتبار أن علياً (ع) أُريد له أن يكون إماماً للمسلمين، وأن يأخذ هذا الموقع المتميّز بين المسلمين في هذه الرسالة الخاتمة رسالة الإسلام، التي امتازت بوجود منصب الإمامة فيها.

وكذلك يفهم تركيز وتأكيد الرسول الأكرم (ص) بخصوص الإمامين الحسن والحسين (ع)، باعتبارهما يمثلان امتداد هذه الإمامة، وباعتبار الدور العظيم الذي يمكن أن يقوم به هذا الإمامان في مستقبل الإسلام، كما قام فعلاً بهذا الدور الإمام الحسن (ع) والإمام الحسين (ع)، وهو من الأدوار المتميزة في حركة التاريخ الإسلامي.

لكن قد يبدو هذا الأمر غريباً بالنسبة إلى التأكيد بخصوص الزهراء (ع)، فهل هذه القصة هي مجرد تعبير عاطفي أصيل؟ أم كان وراء هذا التأكيد أهداف أخرى مهمة وصالحة؟.

السؤال السابق طرحته لنتبين الدور المتميز الذي يراه الإسلام للمرأة في الحياة الإنسانية والمجتمع الصالح، وأراد النبي (ص) ومن قبله القرآن الكريم، في نصوصه الشريفة من التي أكدت على شخصية الزهراء (ع)، أن يجلي ويوضح هذا الدور في حياة المسلمين والإنسانية بصورة عامة; لأن المرأة قبل الإسلام وفي كل الحضارات السابقة للإسلام، لم يكن لها مثل هذا الدور المتميز الذي رسمه الإسلام لها، سواء في الحضارات الوضعية المادية، كالحضارة الرومانية أو الحضارة الفارسية أو اليونانية، وغيرها من الحضارات التي شهدها التاريخ البشري، أو فيما وصلنا من الرسالات الإلهية الأخرى أيضاً، التي لا يبدو فيها هذا الدور للمرأة بهذه الصورة وهذا الوضوح.

القرآن الكريم مثلاً يتحدث عن دور متميز لنساء مهمات في التاريخ الإنساني، من قبيل دور امرأة فرعون آسية بنت مزاحم، ودور السيدة مريم بنت عمران (ع)، التي تحدث عنها القرآن الكريم بحديث الاصطفاء والتطهير والموقع الخاص، ولكن يبقى هذا الحديث فيما عرضه القرآن حديثاً يرتبط بالسلوك الشخصي لمريم (ع)، وتكاملاتها المعنوية الروحية، وكذلك في السلوك الشخصي والموقف الرسالي ذي الطابع الشخصي لآسية امرأة فرعون.

أما الزهراء (ع) فإن لوجودها ودورها ـ من خلال نظرة الإسلام وتأكيداته ـ أبعاداً أوسع بكثير من هذا البعد، الذي يمكن أن نراه في شخصية السيدة مريم (ع)، من خلال ما تحدث عنها القرآن الكريم، أو نراه في شخصية آسية من خلال ما تحدث عنها القرآن كذلك.

فالزهراء (ع) حينما يصفها النبي (ص) بأنها سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، على ما ورد عنه (ص)، يراد من ذلك اعطاء وتقديم الأبعاد المتعددة في هذه الشخصية، ومن ثم اعطاء هذه الأدوار المتعددة في شخصية المرأة وحركتها في المجتمع والتاريخ، لأن الزهراء هي المثال الصالح لذلك.

وبصورة مختصرة أشير إلى مجموعة من هذه الأدوار وعناوينها الرئيسية في شخصية الزهراء (ع)، وأترك المجال للتفكير في المقارنة واستنباط الآفاق والتفاصيل، ليُكتشف في هذه الأبعاد خصوصية الزهراء (ع)، التي لا يمكن أن توجد في النساء التي سبقن الزهراء (ع)، ومن ثم معرفة سر كل هذا التأكيد الواسع من قبل رسول الله، وقبله تأكيد القرآن الكريم، على شخصية الزهراء (ع); وذلك لرسم معالم الأدوار التي يمكن أن تضطلع بها المرأة في الحياة الإنسانية وفي المجتمع الصالح، من خلال تقديم هذا المثل الصالح، وهذه القدوة والأسوة الطاهرة، وهذا النموذج الراقي والكامل للمرأة وأدوارها في المجتمع.

الدور الأول: الهوية الإنسانية التكاملية

وهو ما يمكن أن نستنبطه من نصوص القرآن الكريم، والأحاديث الشريفة التي وردت عن الرسول الأكرم (ص) بخصوص فاطمة الزهراء (ع)، وهو جانب الكمال في الهوية الإنسانية.

القرآن الكريم والرسالة الإسلامية أرادا أن يعطيا هذه الصورة وهذا الفهم، حول هوية المرأة في مضمونها وموقعها في مسيرة الحياة الإنسانية، فالقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة تؤكدان أن المرأة من حيث هويتها الإنسانية، تحظى وتتصف بهوية كاملة في إنسانيتها، ولا يوجد فيها أي جانب من جوانب النقص في هذه الهوية، بحيث يعيق حركتها الإنسانية التكاملية. والله تبارك وتعالى أراد للإنسان في هذه الحياة أن يقوم بواجبات ومسؤوليات كثيرة، وأعطى لهذا الإنسان حقوقاً في هذه الحياة من أجل أن يوصل مسيره إلى الله سبحانه وتعالى: {يا أيّها الإنسان إنّك كادح إلى ربّك كدحاً فملاقيه}[2]، ويبلغ في هذا المسير درجات الكمال الإنساني القريب من الله تعالى.

هذه الصورة التي يتحدث عنها القرآن الكريم في هوية الإنسان، وفي شخصية الإنسان وفي مسيرته وأهداف هذه المسيرة، أُريد لها أن تكون واضحة في شخصية المرأة كما أنها واضحة في شخصية الرجل، فكما أن الرجل في هويته الإنسانية وفي شخصيته وواجباته العامة، وفي أهدافه ومواهبه وامكاناته للوصول إليها وحقوقه العامة، يتمتع بالهوية الإنسانية الكاملة، كذلك المرأة فهي تتمتع وتتصف بهذا الجانب، ومن ثم يمكن أن نقول: إن المرأة مساوية للرجل في هذه الهوية.

ولقد كان هذا التأكيد البالغ من القرآن الكريم والنبي الأعظم (ص) على شخصية الزهراء (ع)، قد أُريد له فيما أُريد توضيح هذا الجانب; لأن النظرة الجاهلية بكل أشكالها قبل الإسلام، كانت تعتبر المرأة ناقصة في الهوية والكمال، وتعيش في ظل الرجل، وتابعة في الهوية الشخصية له.

الإسلام أراد أن يوضح حقيقة من الحقائق الإنسانية ذات العلاقة بالوجود الإنساني، وهذه الحقيقة هي أن المرأة في إنسانيتها كاملة، كما أن الرجل كامل في هذه الإنسانية، وبذلك يمكن أن نفسر الحكمة الإلهية ـ والله سبحانه وتعالى أعلم بذلك ـ أن تكون ذرية رسول الله (ص)، مع أنه سيد الأنبياء والمرسلين وخاتمهم، وقد كتب له البقاء والاستمرار من خلال ذريته إنسانياً ورسالياً، فلم ينقطع في حركته الرسالية عن ذريته كما كتب ذلك لنوح (ع)، أو عن ذريته كما كتب لعيسى (ع)، حيث لا توجد للسيد المسيح (ع) ذرية يستمر من خلالها وجوده الإنساني أو الرسالي، وكما هو في النبي موسى (ع)، إذ لا توجد هناك ذرية لموسى على ما هو معروف يستمر من خلالها في رسالته.

أما ابراهيم (ع) فقد تميز عن كثير من الأنبياء الذين سبقوه ولحقوه ، بأن الله سبحانه وتعالى قدّر له أن يستمر في وجوده الإنساني والرسالي معاً من خلال ذريته، من خلال اسماعيل (ع) ومن خلال اسحاق (ع)، ثم من بعد اسحاق يعقوب ومن بعد يعقوب يوسف (ع)، وهكذا كما يحدثنا القرآن الكريم بذلك.

أما النبي (ص) فقد أراد الله عزّ وجل له أيضاً الاستمرار في وجوده الإنساني، وفي وجوده الرسالي من خلال ذريته، وقدّر الله تعالى أن تكون هذه الذرية متمثلة في امرأة هي ابنته الزهراء (ع)، وكان يمكن أن يكون الاستمرار لرسول الله (ص) في ذريته من خلال أولاد ذكور، كما استمر ابراهيم الخليل (ع) في وجوده من خلال هؤلاء الذكور.

رسول الله (ص) أُريد له أن يبقى ويستمر من خلال ذريّته من الزهراء (ع)، وهي قضية تعبر في الواقع عن أن هذه المرأة في قيمتها الإنسانية قيمة كاملة، يمكن أن تتحول إلى وجود يستمر به أقدس الأشياء في هذه الحياة الإنسانية، وهي خط النبوة والإمامة في الحركة الاجتماعية التكاملية. ويمكن أن نفهم هذا المعنى الذي جسدته الأحاديث الشريفة الواردة عن رسول الله (ص) عندما يقول: "فاطمة سيدة نساء العالمين"، أو كما تحدث عن الحسنين (ع) بقوله: "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة"، وعن الزهراء أن الله تعالى يغضب لغضبها ويرضى لرضاها.

إذاً المرأة في شخصيتها وفي هويتها هي شخصية كاملة وجسدت هذا الكمال وعبّرت عنه. وانطلاقاً من هذا الفهم لشخصية المرأة في الحياة الإنسانية، يمكن أن نقول بأن المرأة تتحمل المسؤوليات العامة في المجتمع الإنساني، كما يتحملها الرجل على حد سواء. وقد يختلف الحال في تقسيم الأدوار، فيكون لشخص ما دور ما ولشخص آخر دور آخر وهكذا، لكن من حيث الأساس في حركة المجتمع تكون الواجبات واجبات مشتركة، ولذلك كانت الواجبات العامة، كالصلاة والصوم والحج والزكاة وغيرها من الواجبات العامة، التي يؤكد الحديث الشريف على أنها أركان الإسلام، ومما قام عليها الإسلام، يتساوى فيها كل من الرجل والمرأة، فكما تجب الصلاة على الرجل تجب على المرأة أيضاً، وكما وجبت الزكاة على الرجل وجبت على المرأة. 

الدور الثاني: حركة التكامل الفردي

وهو من الأدوار المهمة التي يمكن أن نجد معالمها في شخصية الزهراء (ع) بصورتها الكاملة، ونفهم من خلاله جانباً آخر من أدوار المرأة في الحياة الإنسانية، هو دور التكامل الفردي في الحركة نحو الله سبحانه وتعالى.

لقد أراد الله تبارك وتعالى لهذا الإنسان أن يتحرك باتجاه الكمالات المطلقة، التي يتصف بها الله سبحانه وتعالى. وبطبيعة الحال لا يمكن للإنسان أن يصل إلى ذلك الكمال المطلق، وإنما أُريد له أن يتحرك باتجاه ذلك الكمال، باتجاه العلم لأجل أن يكون في صراط العلم الإلهي الكامل، وأُريد له أن يتحرك باتجاه الجود وفي طريق الاحسان والخير، وباتجاه كل ما يوصله للكمالات الإلهية من خلال الخلوص في العبودية لله سبحانه وتعالى، كما يبيّن ذلك القرآن الكريم: {وما أُمروا إلاّ ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيّمة}[3].

هذا الأمر هو الذي يعبر عن هذه المسيرة في حركة الإنسان نحو التكامل، وعندما نأتي إلى الزهراء (ع) نجد فيما نجد من صفاتها هذه الخصيصة، وهذا الأمر الذي أكدت عليه الآيات الشريفة التي وردت في سورة الدهر، عندما تحدّثت عن أُولئك العباد الأبرار الذين وصلوا إلى أعلى درجات التكامل، في حركة العبودية لله تعالى، والتقوى والارتباط بالله سبحانه وتعالى، فالزهراء (ع) مثلت أيضاً المحور في هذه الحركة التي تحدث عنها القرآن الكريم.

هذا التحرك في طريق التكامل هو من الأمور ذات العلاقة بدور المرأة في الحياة، فكما أن الرجل لابد له أن يتحول في حركته إلى عبد صالح مخلص في عبوديته لله سبحانه وتعالى، وأن يتصف بالدرجات الكمالية العالية من التقوى والصلاح والعلم والتواضع والصبر والاحسان والجود والبذل والعطاء، إلى غير ذلك من الدرجات العالية التي دعا إليها الإسلام في مسيرة كمالات الإنسان، وجهاد النفس والرقي نحو الله تعالى، كذلك أُريد للمرأة في أدوارها أن تسلك هذا الطريق وأن تتكامل في هذا الجانب، لأن قابليتها في الرقي والكمال والوصول إلى الله تعالى قابلية كاملة، ومؤهلاتها في ذلك مؤهلات كاملة.

ولعل تركيز القرآن الكريم في هذا الجانب فيما يتعلق بالسيدة الصديقة فاطمة الزهراء (ع)، وكذلك بالنسبة إلى السيدة مريم (ع) عندما يخاطبها القرآن: {يا مريم اقنتي لربّك واسجدي واركعي مع الراكعين}[4]، رغم أنها (ع) كانت من القانتين والساجدين والراكعين وكذلك الحال مع السيدة آسية زوجة فرعون في إخلاصها وإقبالها على الله تعالى، وفي نظرتها إلى الحياة الآخرة، وطلبها في أن يبني الله لها بيتاً في الجنة، وينجيها من غرور السلطان وزخارف هذه الدنيا التي كانت تحيط بها من كل جانب ومكان، باعتبارها امرأة أعظم ملوك العالم فرعون الذي كان يملك الدنيا، مع كل ذلك تنازلت عن هذه الزخارف والبهارج وجميع اللذات وجعلت هدفها ينحصر في أن يكون لها بيت في الجنة وأن ينجيها الله من فرعون وعمله.

هذا الأمر حينما يركز عليه القرآن الكريم، يركز عليه ليعطي للمرأة هذا الدور أي الاهتمام بهذا الجانب في حركتها الإنسانية، إذ إن المرأة في حركتها الإنسانية يمكنها ـ كما يمكن للرجل ـ أن تأخذ من شهوات هذه الدنيا وزينتها ما تشاء في الحدود الشرعية: {قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيّبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصّل الآيات لقوم يعلمون}[5]، وهو أمر أحله الله تبارك وتعالى لعباده من الرجال والنساء، ولكن الاستغراق في هذه اللذات وهذه الشهوات، والاستغراق في زينة الحياة الدنيا، بحيث يمثّل ذلك الهموم الاجتماعية العامة للوسط النسوي، هو مما لا يريده الله تعالى لهذه المرأة.

ومن الطبيعي أن نحفظ في حركة المرأة التوازن بين اشباع هذه الحاجات والرغبات، بما يحفظ للمجتمع حيويته وقدرته على الحركة، والحذر من السقوط في مستنقع هذه الشهوات والرغبات، والاستغراق في الزينات بحيث تتحول ـ في حالة السقوط ـ كل هذه القضايا إلى هموم في أوساطنا الاجتماعية والفردية وأوساط المرأة. ونجد في مجتمعاتنا الحاضرة ـ مع الأسف ـ الكثير من الرجال الذين وقعوا في هذا المستنقع، كما وقعت فيه الكثير من النساء بحيث صارت قضية الزينة والزخارف الدنيوية هي القضية الأولى التي تتحدث عنها النساء، وتتداولها المجتمعات الخاصة بهن مثلاً، أو ما يشبه ذلك من الاسراف في مجالس الاستقبال أو حفلات الزواج.

والشيء المهم الذي لابد أن ننتبه إليه، وتنتبه إليه المرأة في موضوع دورها الكبير في هذا المجال، هو أن النصوص الشريفة التي وردت تتحدث عن الزهراء (ع) في حياتها الخاصة الفردية، وفي لبسها واكلها وشربها، وفي زهدها بهذه الأمور والزينات، أُريد منها إعطاء هذا التوجيه الخاص في حركة المرأة ودورها في الحياة. 

الدور الثالث: الدور السياسي للمرأة

الدور السياسي الخاص الذي يمكن أن تقوم به المرأة في المجتمع الإسلامي، فلقد أُريد من المرأة أن تدخل العمل السياسي، وتمارس هذا الدور المهم في الأعمال السياسية وفي المجتمعات الإنسانية. المرأة في هذا المجال كالرجل، تتحمل المسؤوليات الخاصة في خدمة المجتمع والتضحية من أجله، والجهاد في سبيل الله تعالى وفي البذل والعطاء إلى حد الاستشهاد في سبيل الله تعالى، فلابد للمرأة أن تقوم بهذا الدور أداءً للواجب والتكليف، حسب القانون الإلهي والأحكام الشرعية التي وضعها الشارع المقدس لها، وهو من الأدوار التي فتحت أمام المرأة في حركتها.

إن تضحية الزهراء(ع) كانت من أجل نصرة إمامة الإمام علي (ع)، وترسيخ مبدأ الولاية، والدفاع عن هذا الحق الذي أُريد له أن يثبت في التاريخ ويستمر، وإن لم يحصل (ع) على موقعه المطلوب منذ اليوم الأول، فنجد الزهراء (ع) تبادر إلى هذا الدور، وتنهض به بأفضل ما يمكن أن يؤديه الإنسان، في ظرف حساس يمكن لنا أن نقول إنه لم يكن من الممكن لغير الزهراء (ع) أن يقوم فيه.

ومع وقفة عند هذه النصوص الواردة عن النبي (ص) في الزهراء، مثل قوله: "إن الله يغضب لغضب فاطمة"، يتبين لنا أن الله سبحانه وتعالى قدّر في قضائه وقدره، أن فاطمة الزهراء (ع) سوف تمر بأوضاع سياسية واجتماعية تثار فيها الزهراء، وتغضب لله تعالى لا لنفسها، ولذلك يغضب الله تعالى لغضبها ويرضى سبحانه وتعالى لرضاها (ع).

وعلى خطى الزهراء (ع) كان دور المرأة في الثورة الحسينية، باعتبار أن الثورة الحسينية ـ كما هو معروف ـ مثلت القمة في التضحية والفداء والبذل والعطاء في حركة الإنسان السياسية والاجتماعية. وقد شاركت المرأة الرجل مشاركة فعالة في كل الأدوار التي قام بها في الثورة الحسينية، وكان لهذا الدور خمسة أبعاد هي: البعد القتالي، والبعد السياسي، والبعد الإعلامي، والبعد الإنساني، والبعد الأخلاقي والمعنوي العام، وهي أبعاد رئيسية ومهمة نهضت بها المرأة في هذه الثورة الخالدة.

إذن المرأة يمكنها في تفاصيل حياتنا الفعلية الحاضرة أن تقوم بالكثير من الأدوار الهامة، في هذه المعركة الجهادية وفي صراعنا الذي نخوضه كمسلمين ضد الطغيان والكفر العالمي، وضد الاستكبار والاستبداد.

فيمكن للمرأة أن تساهم مساهمة فعالة وحقيقية في الفعاليات الجهادية طبقاً للأحكام الشرعية، وضمن المواصفات الشرعية التي حددتها الشريعة الإسلامية المقدسة، مع ملاحظة أن قسماً من هذه الأعمال يتحملها الرجل وحده، في حين أن هناك أعمالاً تتحملها المرأة وحدها، وأعمال أخرى يتحملها الاثنان. 

الدور الرابع: دور المرأة في الأسرة

إن النظرية الإسلامية في فهمها للمجتمع الإنساني ورؤيتها لتركيبته العامة، ترى أن اللبنة الأساسية في هذا البناء الاجتماعي والتي تشكل الوحدة المركزية فيه هي الأسرة.

النظرية الإسلامية ترى أن الأسرة تمثل وحدة رئيسية ومركزية في بناء المجتمع، ولا يمكن أن يبنى المجتمع الصالح ويتكامل دون أن تبنى الأسرة الصالحة، ومن هنا نجد أن الإسلام طالما أكد على أهمية دور الأسرة في المجتمع، على خلاف رؤية المجتمعات والحضارة الغربية، التي لا ترى للأسرة مثل هذا الدور المهم في بناء المجتمع وقوته وتكامله.

فالإسلام يرى أن قوة الأسرة وصلاح الأسرة وتماسكها وتكاملها واتصافها بالمواصفات المطلوبة، هي التي تمكنها من أن تحول المجتمع إلى مجتمع صالح متكامل. ولا شك أن الزوجة الأم تمثل الركن الرئيس في الأسرة وبنائها، إن لم نقل الركن الأهم في هذا البناء من الناحية الداخلية والذاتية. ولعل هذا هو السر في التركيز الخاص على شخصية الزهراء (ع) في تفاصيل دورها في الأسرة.

وفي هذا المجال أود أن أنبّه لنقطة مهمة جداً في شخصية الزهراء (ع) لم توجد في غيرها من النساء الصالحات اللاتي تحدث عنهن القرآن الكريم، وتحدث عنهن الرسول الأكرم (ص)، من قبيل آسية ومريم بنت عمران (ع) التي لم تحصل لها ظروف أسرة كاملة، كما لم تحصل لآسيا زوجة فرعون ظروف أسرة كاملة وصالحة في حركتها، حيث كانت زوجة لكن لم يكن لها أولاد، وكانت زوجة لكنها زوجة لطاغية، ولم تكن قادرة على أن تعبر عن تلك العلاقة القوية في إحكام الأسرة وعلاقات الأسرة وبنائها.

وأما خديجة (ع) فقد كان لها دور الأسرة، فهي زوجة لرسول الله (ص) وأم لذريته; لأنها أم الزهراء (ع) فهي تشبهها من هذه الناحية، ولكن الزهراء(ع) امتازت على أمها خديجة بالأدوار الأخرى التي مارستها في حياتها، والتي استطاعت أن تحفظ في شخصيتها قضية الموازنة بين هذه الأدوار، والموازنة غاية في الأهمية بالنسبة لحركة المرأة.

فبعض النسوة قد يوفقن لأن ينهضن بدور مهم في الجانب الأول، أو في الجانب الثاني في العبادة وفي جهاد النفس والقيام بالأعمال الصالحة، ثم الوصول إلى الكمالات العالية، وقد يكون لهن دور مهم في الجانب الثالث، في الرعاية المنزلية وفي ترتيب وضع الأسرة وجعلها أسرة قوية صالحة، والبعض منهن يكون دورهن الكبير في موضوع التضحية والفداء، لكن الجمع بين كل هذه الأدوار، وايجاد حالة الموازنة بين هذه الأعمال وهذه الأدوار هي قضية هامة جداً، وفي فهمنا للدور الكامل للمرأة أنه كلما تمكنت المرأة من أن تقترب في صورتها النموذجية، التي تكون الزهراء (ع) فيها قدوتها وأسوة لها في هذه الحركة التكاملية، تمكنت من أن تقترب من حالة المحافظة على هذه الموازنة، بمعنى أن تكون لها مساهمة فعالة في كل هذه الأدوار، وتكون المرأة في صورتها أقرب إلى الكمال نحو الزهراء (ع)، وكلما ابتعدت عن هذه الموازنة كانت بعيدة عن حالة الكمال.

أقول ربما لا تتهيأ للمرأة فرص أن تمارس الدور الرابع (دور الأسرة); لأن هذا الدور من الأمور التي لا تكون دائماً في اختيار المرأة، فربما لا تتزوج المرأة، أو تتزوج ولا يكون لها أولاد، وربما لسبب ما لا يكون الزواج ناجحاً، وغير ذلك مما يمكن ألاّ يكون في اختيار المرأة وقدرتها، ولذلك فأنا أشير إلى الحالة الغالبة، وهي أن المرأة عندما تكون في دور الأسرة، يكون أمامها فرص أخرى مهيأة، كما كان الأمر بالنسبة للزهراء (ع)، فهي ربة بيت تطحن الحنطة في بيتها وتنظف البيت، وهي في نفس الوقت المرأة العالمة الفاضلة التي كانت قادرة على تعليم الناس، فلم تطلب مثلاً جارية لتدبير أمور المنزل، لتقول مثلاً أريد أن أتفرغ للعلم والتعليم، وإنما عبرت عن هذا الجانب في كمالها في حفظ الموازنة بين إدارة البيت والعلم، وكما عبرت عن ذلك في عبادتها وزهدها وتواضعها، وفي مساهماتها في العمل الاجتماعي والسياسي العام.

ربما لا تتهيأ فرصة للعمل الاجتماعي لبعض النساء، أو لا تتهيأ لها فرصة للعمل الجهادي، فيكون الاهتمام في الجانب الاجتماعي أو في العمل الثقافي أو العمل العبادي حسب الفرص المتاحة لها. المهم للمرأة أن تسعى لاستثمار الفرصة الحاصلة من خلال الإمكانات الموجودة، وأن تواكب في حركتها التكاملية هذه الفرص، وتوازن بين هذه الأدوار الأربعة التي ذكرتها؛ لأجل أن تكون امرأة كاملة في هذه الحركة.

-------------------

[1] الأحزاب: 33.

[2] الانشقاق: 6.

[3] البيّنة: 5.

[4] آل عمران: 43.

[5] الأعراف: 32.

**************

الإمام الخميني وحقوق المرأة في الإسلام

2007-09-05

د. زهراء مصطفوي[1]

في سياق الحديث عن موضوع "الإمام وحقوق المرأة في الإسلام" أود في البداية الإشارة إلى نقطتين مهمتين:

الأولى: لابد لي من توضيح هذه الحقيقة وهي أن الإسلام والإمام الخميني، لا يعتبران المرأة مخلوقاً يختلف عن الرجل، بل يعتبرانها متساوية مع الرجل في الخلق والطاعة والعبودية والعقاب والثواب، بل إن الإمام كثيراً ما يؤكد على قضايا المرأة وشؤونها من قبيل تخصيص يوم للمرأة دون الرجل وغيرها من المسائل التي استهدف منها اعطاء المرأة قيمتها ومنزلتها المرموقة.

الثانية: ان هناك نقصاً كبيراً في عملية البحث والدراسة حول حقيقية المرأة وحقوقها المشروعة، من أجل مواجهة كل أشكال النظرة السطحية والفكرة السيئة حول المرأة؛ فالبحث في هذا الأمر بقي في التعرف إلى حقيقة شأنها في ذلك شأن أي موجود آخر في هذا العالم الذي يجب أن يخضع هذا المخلوق الشريف وموقفه الحقيقي في المجتمع، من وجهة نظر الإسلام، للدراسة والبحث الكافيين.

وهنا أود التطرق إلى الأحكام والحقوق المتعلقة بالمرأة والواردة في القرآن الكريم وسيرة الأئمة الأطهار (ع) كما يبينها الإمام الراحل (رض):

1 ـ الحقوق الإنسانية للمرأة، وهي تلك المتعلقة بخلقها وموجوديتها في عالم الخلق.

2 ـ الحقوق السياسية للمرأة، وهذه يوضحها دور المرأة في الثورة والحرب وخدمة الإسلام.

3 ـ الحقوق الاجتماعية للمرأة، ويمكن دراستها من خلال دور المرأة في المجتمع.

4 ـ الحقوق المتبادلة بين الرجل والمرأة، وهي المتعلقة بالزواج والطلاق ودور المرأة في العائلة.

5 ـ حقوق المرأة في تربية الطفل ورعايته.

الحقوق الإنسانية للمرأة

يقول الإمام في مقابلة صحفية: "لا فرق بين المرأة والرجل، فكلاهما إنسان، اما ما يوجد من فوارق طبيعية بينهما فلا علاقة له بالطبيعة الإنسانية لكلا الجنسين"[2].

وقد جاء هذا الجواب رداً على سؤال حقوق المرأة، حيث أجاب عنه بدقة، مركزاً على الطبيعة الإنسانية للمرأة، وان المرأة هي إنسان قبل أن تكون امرأة، ثم يركز على أن الفوارق الموجودة بين الجنسين لا علاقة لها بالطبيعة الإنسانية، بل إنها نابعة من كون أن المرأة والرجل يكمل أحدهما الآخر.

إذاً، فهناك تباين وفروق بين الرجل والمرأة، وهذا من متطلبات الحياة الطبيعية الصحيحة، فكل من الجنسين يخضع لنظام حقوقي خاص، يتمتع في ظله بالنعم والحريات الإنسانية، وهذا المفهوم يتعارض مع ما يشاع اليوم في العالم، حيث يعتبرون الرجل صاحب سلطة وهيمنة بسبب تفوقه البدني وممارسته للأعمال الصعبة، ويعتبرون ذلك مبرراً لأن يصبح الرجل هو الحاكم، والمرأة هي الخاضعة.

ولعل بعض السيدات يصبحن مصداقاً لما يقوله أرسطو من أن الله خلق الناس على صنفين: الأسياد والعبيد، وذلك عندما رأى عبداً يعطي السيف لسيده ويطلب منه أن يؤدبه. فبعض السيدات يرضخن لهذه الذلة والحقارة، بينما نرى الإمام يؤكد عدة مرات بأن ليس من حق المرأة أن تعتبر نفسها مجرد سلعة، كما لا يحق للرجال النظر إلى المرأة على أنها سلعة أيضاً، بل كان (رض) يؤكد دائماً أن المرأة يجب أن تظل في مقامها الإنساني السامي، لأن الله تعالى خلقها كريمة، والعرفان الإلهي هو {ولقد كرمنا بني آدم}.

إذاً، فإن الكرامة لم تمنح لجنس دون آخر؛ والفرق الموجود بين الجنسين، في القوة والخصال الأخرى، لا علاقة له بالكرامة الإنسانية، وليست هذه الفروق عاملاً لضعف أحد الجنسين أو قوة الآخر، وإلا فإن هناك من الحيوانات ما هي أقوى من الإنسان، فهل هي أفضل منه؟!

إذاً فالنقاط القيمة في هذه الاجابة هي:

1 ـ المرأة ـ إنسان ـ تتساوى مع الرجل في الخلق.

2 ـ على المرأة أن لا ترضى بأي ظلم أو تسلط من جانب الرجل أو المجتمع.

3 ـ وجود أفكار وممارسات خاطئة من قبل الرجال تعتبر بحد ذاتها مقياساً مهماً، لذا فإن على الرجال أن يكونوا أحد عوامل اعطاء المرأة حقوقها الإنسانية، ومنها الحرية.

ولكن ما هو معنى الحرية؟

المؤسف هو أن لكلمة حرية معنى خاص في كل ثقافة وفكر، ولكننا عندما نقول "إن الطير قد تحرر من القفص"، فإننا هنا نقصد المعنى الحقيقي للحرية لأن الطير خلق للطيران، والقفص سلبه القدرة على الطيران، ولكن ما المعنى الذي يوحي إليه استخدام هذه الكلمة بحق المرأة؟ ما هي طبيعة المرأة؟ وأين تكمن قدرتها على التحليق والتكامل؟ وما هو قفصها؟ وما هو مفهوم الحرية بالنسبة لها؟

لعل من المناسب الحديث هنا عن المفهوم الآخر للحرية، وهو المفهوم الذي يشيعه المستعمرون في عصرنا الحالي لتبرير أعمالهم اللاإنسانية؛ فهؤلاء يدعون إلى تحرير المرأة وتحللها من كل الضوابط والقوانين التي وضعت لها باعتبارها إنساناً في عالم الخلق. إذاً فمن أي شيء يريد هؤلاء تحرير المرأة؟ هل خلقت أسيرة مكبلة وهم يحاولون تحريرها؟ هذا الادعاء نفسه مليء بالاهانة لخلقة المرأة، وهذا الخواء في الفكر وما يترتب عليه من أسئلة عديدة يتضح بجلاء من خلال مقابلة أجرتها صحيفة "الغارديان".

تسأل السيدة اليزابيث تارغود: هل المرأة قادرة في ظل الحكومة الإسلامية على الاختيار بحرية بين الحجاب الإسلامي واللباس الغربي؟

فيجيب الإمام قائلاً: "النساء يتمتعن بالحرية في اختيار العمل والمصير وكذلك نوع اللباس ضمن الموازين والضوابط". (باريس 1979).

إن امعان النظر في هذا السؤال والاجابة عنه، يعتبر أمراً ضرورياً إلى حد ما، فمن المؤكد ـ في ما يتعلق بالنهضة الجبارة التي حدثت ـ ان يقوم قائد ثورة كهذه بدراسة أسس النهضة وجوانها، ويوضح ملامح جلية لآفاق المستقبل؛ فالنهضة التي تريد هز أركان البيت الأبيض والكرملين والاطاحة بجبابرة هذا الزمان بسواعد الرجال والنساء والأبطال، هل يمكن النظر إلى كون مستقبلها منحصراً بقضية نوع اللباس الذي سترتديه المرأة؟ أهو حجاب إسلامي أم لباس غربي؟

الجواب الذي قدمه الإمام بعدما أردك مدى خواء السؤال وتفاهته، كان بحراً من العمق الفكري والنظرة المستقبلية الحاذقة حول اهتمام الإسلام بالمرأة والقدرة على تلبية مطالب النساء وحقوقهن. فكلمات المصير والحجاب ـ والفعاليات ـ تمثل احاطة كاملة للنساء، بجميع حقوقهن وشؤون حياتهن، وهو ما يصطلح عليه اليوم بحضور العنصر النسوي في المجتمع ودوره المباشر في التخطيط والإدارة، فالإمام يعتبر ذلك من حقوق المرأة البديهية، ويتصدى بذلك إلى نسخ نظرية كل الذين يعتبرون مصير الإنسان مرسوماً من قبل ولا يمكن تغييره، حيث "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"، وقد أكد أيضاً أن المرأة تتمتع بحرية الاختيار، وليست مسلوبة الإرادة. وهذا الجواب صرخة مدوية يعلن فيها الإمام أن حرية المرأة لا تعني تجريدها من حجابها، هذا التجريد الذي يؤدي إلى فسادها وضياعها، ولا تعني سلخها من المحيط العائلي، ما يؤدي إلى انهيار العائلة التي هي لبنة أساسية لبناء المجتمع، ولا زجها في الأعمال الشاقة المنهكة التي تتعارض وطبيعة تركيبها البدني، بل إن حضور المرأة في المجتمع وممارستها النشاطات المختلفة وارتداءها الملابس يجب أن تخضع كلها للموازين والضوابط الشرعية، وكل إنسان، وبحكم إنسانيته، يحتاج إلى حياة هادئة هانئة، وهذا لا يتحقق إلا بسيادة قانون يلتزم به الجميع. إذاً فعلى المرأة أن تتحرك وفقاً للموازين والضوابط، ليس في لباسها فقط، بل حتى في اختيار نوع العمل والمصير.

ومعلوم أن لكل مجتمع قانوناً ينبع من عقيدته وفكره، وليس المجتمع الإسلامي خارجاً عن هذه القاعدة، إذ إن القانون الذي يدير المجتمع هو قانون إلهي يتطابق مع الفطرة البشرية ويدفع الجميع باتجاه الكمال الوجودي للإنسان. النساء يجب أن يلتزمن بضوابط العفة والحياء العامة، ويمارسن ـ في الوقت نفسه ـ دورهن الاجتماعي والسياسي، لأن المرأة التي تدخل المجتمع من دون التمسك بالضوابط والقوانين التي سنت من أجل سلامتها وسلامة المجتمع، ستفقد تلك الأصالة والجدية في التأثير والعمل والنمو والكمال، وستتحول بدلاً من ذلك إلى عامل تخريب لهذا المجتمع وهدمه.

الحقوق السياسية للمرأة

أما في ما يتعلق بالحقوق السياسية للمرأة، ودورها في الثورة والحرب، وباقي المجالات المتعلقة بمصيرها الإنساني والاجتماعي والسياسي، فها هو الإمام يؤكد حق المرأة في التدخل في الشؤون السياسية، بل يعتبره من واجبها[3]. وأكثر من ذلك نراه يؤكد وجوب تدخل المرأة في تصريف الأمور الأساسية للبلاد[4]، بل يوجب عليها ـ للمحافظة على الدين الإسلامي والدفاع عنه وعن الشعب وعن الكيان الإسلامي ـ مشاركتها الرجل حتى النفس الأخير، فهو يعتبر الدفاع واجباً على عاتق كل من يستطيع ذلك دون استثناء[5].

وقد لا نجد توضيحاً أكثر حزماً وقوة، للحقوق السياسية للمرأة كما نجده في أحاديث الإمام الراحل.

والمؤكد أن تدخل المرأة في الشؤون السياسية وتقرير مصيرها، ومصير المجتمع من خلال امتلاك حق الانتخاب والترشيح والإدارة، والعلاقات السياسية الخارجية، والحرب والسلام وسن القوانين الثقافية والاقتصادية، بحاجة إلى توافر عوامل عديدة هي:

1 ـ تمتع المرأة بالكرامة والشخصية القوية.

2 ـ امتلاك المرأة لإرادتها.

3 ـ امتلاك المرأة لفكر راسخ قوي في المجالات السياسية، وتمتعها بالابداع والمبادرة.

وقد أكد الإمام في أحاديثه على امتلاك المرأة لهذه الخصال وأمثالها، حتى انه اعتبرها في مصاف الرجال في الدفاع والحرب، بل اعتبر كل الخصال السابقة من واجبات المرأة الضرورية، وأعطى قيمة كبرى لرأي المرأة، ومنحها الحرية في إبداء رأيها في المجالات العقائدية والسياسية، ومنحها الإرادة والحرية، لتفكر وتختار الصلاح، وهكذا وجه تحذيراً لكل المغفلين والمنحرفين فكرياً، الذين قاموا بحجر المرأة في البيت، وتسليم مقاليد أمورها بيد الرجل باسم الدين وبذريعة صونها من الاضرار الاجتماعية، مذكراً الجميع بقابليات المرأة وقدرتها على احقاق حقوقها المضيعة.

الحقوق الاجتماعية للمرأة ودورها في المجتمع

خلال لقاء مع الدكتور "جيم كوكلرزفت" استاذ جامعة روتجرز الاميركية قدم الإمام (رض) شرحاً وافياً وواضحاً حول الحقوق الاجتماعية للمرأة، من خلال قوله: "من قال اننا نعارض عمل المرأة؟ من قال أن المرأة لا تستطيع أن تمارس المهام الرسمية؟ إن الإسلام منح المرأة من الحرية والاحترام ما لم تمنحها كل الأديان والعقائد الأخرى.. النساء يتمتعن بالحرية داخل المجتمع الإسلامي.

لا أحد يمنعهن من دخول الجامعات والدوائر والمجالس النيابية أبداً، بل الممنوع هو ما يأتي بالفساد الأخلاقي، سواء على المرأة أو الرجل، فهو حرام لكلا الجنسين"[6]. "النساء والرجال أحرار في دخول الجامعات"[7]. "في النظام الإسلامي، تتمتع المرأة بالحقوق نفسها التي يتمتع بها الرجال، مثل حق العمل، وحق التحصيل العلمي، وحق التملك.. الخ"[8].

إن من جملة الحقوق الاجتماعية للمرأة، حق التحصيل العلمي والنمو والتطور الفكري، وهذا ما كانت المرأة ـ ولاتزال ـ محرومة منه في المجتمعات المختلفة، والإمام الراحل لا يعتبر ذلك من حق المرأة فحسب، بل يرى أن عليها بلوغ مراحل التحصيل العليا، بالمستوى المتاح للرجال نفسه.

أما تصريح الإمام بحق المرأة في ممارسة المهام الرسمية والعمل والتملك، فلأنه يريد مواجهة الأفكار السائدة، التي ترى حجر المرأة في البيت، ولا تعترف بقدرتها على ممارسة النشاطات الاجتماعية، وتولي الأعمال الحساسة، ولا تملك حق الأجر مقابل عملها. وبتعبير آخر، أصحاب هذا الرأي لا يعتبرون المرأة إنساناً كاملاً ومستقلاً، ولهذا فهي ليست مؤهلة للتمتع بحقوقها.

ومع ذلك نرى الإمام يؤكد دائماً ان ممارسة المرأة لهذه الحقوق يجب أن يقترن بالتزام العفاف والضوابط الشرعية لأسباب ورد ذكرها سابقاً.

الحقوق المتبادلة بين الرجل والمرأة

في هذا الباب نستشهد بحديث الإمام الراحل، حول اعطاء الإسلام المرأة حق اختيار الزوج الذي تريده، على أن يكون ذلك في اطار تعاليم الإسلام. وفي رده على استفتاء حول امتلاك المرأة حق الطلاق يقول: "لقد رسم الشارع المقدس طريقاً سهلاً أمام المرأة تستطيع من خلاله امتلاك حق الطلاق، إذ ان بإمكان المرأة أن تشترط عند العقد أن تكون وكيلة عن الزوج في إجراء الطلاق بصورة مطلقة، أي متى ما أرادت أو بصورة مشروطة، أي عند اساءة الزوج معاملتها مثلاً. أو عند زواجه بامرأة أخرى، وفي هذه الحالة تكون المرأة قادرة على الطلاق من زوجها بالوكالة"[9].

وهنا يلاحظ أن حديث الإمام حول حق الزواج والطلاق فيه من الصراحة والوضوح ما لا يترك مجالاً لأي شبهة أو إبهام، فهو يؤكد على حرية المرأة في اختيار الزوج الذي يناسبها، كما انه يؤكد دائماً ـ ضمن اطار القوانين الإسلامية ـ علىأن الهدف من الزواج ليس فقط سد الحاجة الغريزية للبدن، بل إن له أهدافاً سامية أهمها انجاب النسل، أو ما يسمى بالرياحين التي بها يستمر بقاء النوع الإنساني، وتقوى الأمة الإسلامية، وهذا الهدف لا يتحقق إلا بوعي كامل من قبل الزوجين لهذه الحقيقة، واختيار كل منهما للآخر، على أساس القابلية على انجاب أطفال صالحين، حيث يقول الإمام الصادق (ع): "الولد الصالح ريحانة من رياحين الجنة"[10]. ولأجل أن تولد هذه الرياحين ـ التي هي أمانة إلهية ـ سالمة البدن، وتخضع للتربية الصحيحة، وتكون قرة عين الرسول (ص) لابد من أن يقوم كل من الزوجين باختيار الآخر بدقة وعناية فائقتين.

أما الطلاق، فرغم أنه أمر مذموم من قبل الرجل والمرأة على حد سواء ويهتز له العرش، فإنه يمثل الحل النهائي للمشاكل المستعصية على الحل بينهما، وخلافاً لباقي الأديان التي سدت هذا الباب، لم يترك هذا الأمر من دون علاج، بل أبقى باب الطلاق مفتوحاً، إلا أنه شدد على كراهيته، وعلى التأني في الاقدام عليه، كما منح المرأة الحق في أن تشترط خلال عقد القران، بأن تكون وكيلة عن الزوج في اجراء الطلاق، وهذا ما يمنح الزوجين صلاحية حل المشاكل، ويساعد على تدعيم أسس الاستقرار داخل المحيط العائلي.

حق المرأة في تربية الأطفال

في هذا الباب اخترنا حديثاً للإمام الراحل لمناسبة "يوم المرأة" يوضح لنا ما يتطلبه هذا القسم من البحث.

"يتمتع العنصر النسائي بدور خاص في العالم يتمثل بمزايا عديدة، وصلاح أي مجتمع وفساده منوطان بصلاح نسائه وفسادهن؛ فالمرأة هي الوحيدة القادرة على أن تربي في حجرها أفراداً صالحين للمجتمع، وقد يكون هؤلاء السبب في سمو المجتمعات واستقامتها، وفي الوقت نفسه يمكن للمرأة أن تربي أفراداً على العكس من ذلك تماماً"[11].

فالعلماء والباحثون يؤكدون في أن شخصية الطفل تتكامل خلال السنوات السبع الأولى من عمره، وخلال ذلك يكون الطفل إلى جانب أمه ينهل منها مفاهيم العطف والمحبة والتضحية والبهجة والنشاط والتفاؤل والإيمان والاستقامة وباقي المفاهيم والأخلاق السامية، وقد يحصل من الأم عكس ذلك تماماً، إذ قد يأخذ عنها الحقد والحسد، وعدم الإيمان، والتشاؤم والبخل والحزن والضعف، ومن هذا المنطلق يقول إمامنا العزيز إن الأم هي منشأ الصلاح والفساد.

وفي الختام، لا بأس من الإشارة إلى هذا الأمر وهو إنني وبحكم كوني ابنة الإمام، ترعرعت في ظله، وواكبت بعض مراحل حياته، يمكن أن أخلص إلى هذه النتيجة وهي: أن ما يقوله الإمام الراحل كانت له مصاديق عملية من خلال ممارساته اليومية، فهو يقول ما يؤمن به، ثم يطبق ذلك قبل غيره، وما كان يعتقده، وما يقوله حول شخصية المرأة وحقوقها كان يترجمه عملياً في ممارساته وتطبيقاته، فهو الذي أرسل امرأة ضمن الوفد الذي حمل رسالته إلى غورباتشوف، وهو الذي طرح مفاهيم المساواة وأكد عليها، بصدقه وعزمه المعهودين، ولم يقصد التعامل مع أحد بموقفين بما فيهم النساء، ولهذا فإنه عندما كان ينادي بالمساواة في الحقوق بين المرأة والرجل كان يلتزم ذلك عملياً أيضاً.

وأؤكد على نقطة مهمة وهي أن الإمام الراحل كان صريحاً وواضحاً في كلامه، ولم يقل شيئاً للمجاملة أو بهدف كسب الشهرة، بل إنه كان يستهدف بما يقوله رضا الله وحده، وهو هدف ملأ كل وجوده وجوارحه، وقد كان حريصاً على كسب مرضاة الله لدرجة يصعب تصديقها، وقد لا يكفي مقال واحد لتوضيح ذلك؛ فقد وجه نداءً في أحد الأيام إلى ابطال الإسلام في الجبهات، لكنه أمر بإعادته إليه قبل البث، وأجرى عليه تغييرات بسيطة، ثم اعاده، وعندما استفسرت منه عن السبب قال: "لقد كتبت للمقاتلين: أن كل همي وجهدي منصب على الدعاء لكم. ولكنني تنبهت في ما بعد أن هذا الكلام لا يطابق الواقع مئة في المئة، لذلك غيرت عبارتي وجعلتها: "ان أكثر همي منصب على الدعاء لكم". وهدفي من ذكر هذا المثال هو أن الإمام الراحل كان حديثه وقوله مطابقين لما في أعماقه بشكل كامل، لدرجة أن اعداءه لم يجرؤوا على اتهامه بالازدواجية أو الرياء.

لقد كان صادقاً في ما يطالب به للمرأة، كصدقه في كل شيء، ولم يكن في حديثه ولا مثقال ذرة من الرياء أو المجاملة، وأود هنا بحكم علاقتي العائلية بالإمام التطرق إلى مصاديق عملية وليست عبارات كلامية فقط، خاصة في ما يتعلق بسلوكه في البيت، وعلاقاته القائمة على أساس التفاهم والمرونة، والنهوض بالمسؤوليات الناجمة عن الثقافة التي أشاعها في البيت، خاصة ثقافة حرمة أهل البيت، وكذلك روح المسامحة مع الأصدقاء والمقربين، إذ تنقل الوالدة أن الإمام قال لها بعد الزواج: "إن ما أريده منك هو التزام الواجبات الشرعية، والابتعاد عن الحرام فقط، ولا دخل لي في ما تقومين به من المستحبات والمباحات. أما في الشؤون الخاصة فلك في ذلك كامل الحرية". فالإمام لم يطلب من زوجته إلا التزام الفرائض الإسلامية فقط، ولم يكن يتدخل في الشؤون الخاصة بالزوجة، بل إنه لم يكن يطلب منها حتى جلب قدح ماء له، بل كان يكتفي أن يقول لها "اطلبي لي الشيء الفلاني".

كما تنقل الوالدة أيضاً أنه كان يساعدها في رعاية أطفالها الصغار، حيث كان يتولى رعاية الطفل مدة ساعتين في الليل، ريثما تأخذ هي قسطاً من النوم ويظل يتناوب معها على رعايته حتى الصباح. وتقول الوالدة: ليتني كنت أستطيع تصوير تلك المشاهد من تعامله مع الزوجة والأطفال والمقربين!

واليوم فإن على اتباع الإمام الراحل، والسائرين على نهجه أن لا يدعوا هذه الشعلة الوهاجة تخبو، كما أن على كل الإخوة اتباع الإسلام والإمام، إن يعملوا جاهدين على منح المرأة حقوقها التي نص عليها الإسلام، وأكد عليها الإمام، وأن يتنبهوا على أن التبعات الناجمة عن عدم التزام ذلك ستطالهم هم والمجتمع كله، وستفقد العائلة هناءها واستقرارها اللذين هما من مستلزمات التربية الصحيحة لجيل المستقبل.  

----------------------------------

[1]  كريمة الإمام الخميني.

[2]  مقابلة مع صحيفة "دي ولت غرانت" الهولندية، من كتاب "صحيفة النور" ج3، ص46.

[3]  "سيماى زن در كلام امام خميني"، خلال استقبال الإمام لجمع من أعضاء مجمع لنگرود التعليمي.

[4] "سيماى زن در كلام امام خميني"، خلال استقبال الإمام لجمع من قادة الحرس.

[5]  "سيماى زن در كلام امام خميني"، خلال استقبال الإمام لجمع من قادة الحرس.

[6]  حديث لمحلل صحيفة "لوس انجلوس تايمز" الأميركية.

[7]  حديث بتاريخ 20/8/58هـ ش.

[8]  "صحيفة النور" ج4، ص33.

[9]  فتوى الإمام حول طلاق النساء "سيماى زن در كلام امام".

[10]  وسائل الشيعة.

[11]  سيماى زن در كلام امام.

**************

المرأة المسلمة في مواجهة الطاغوت

2007-09-05

جعفر مرتضى العاملي

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

ليس غريباً إذا قلنا: إننا حينما نتمثل المرأة بشكل طبيعي.. فإنما نتمثل هذا الموجود الضعيف الطيب، الذي يفيض رقة وحناناً.. ولربما لا يخطر لنا على بال أن نجد لها من المواقف والأدوار إلا ما ينسجم مع تلك الرقة، ويتلاءم مع ذلك الحنان.. وأما أن نتوقع منها المواقف الجريئة، والحازمة، فربما، ولكن لا إلى الحد الذي تجاري فيه الرجل مثلاً عموماً..

هذا.. وأما المرأة في عالم اليوم.. بعد أن طغت عليها المادة وغرقت في حمأة الشهوات، حتى أصبحت مثال المهانة والابتذال، بأجلى صوره وأدق معانيه.. إذا أردنا أن نتمثلها فإنما نتمثل ذلك الموجود الذي فقد كل شيء، ولم يعد يملك ما يعتز به، إلا عنصر الأنوثة الطاغي..

نعم.. لم يعد لديها مما تعتز به إلا أنوثتها، وبأنوثتها هذه تستدر العطف والرحمة، وبها تحصل على المال.. وبها وعلى أساسها تحاول التغلب على كل مشاكل الحياة وهي دون غيرها أصبحت تشكل أساس تعاملها مع الرجل، وأساس كل روابطها به.. وأصبح ذلك هو عالمها الذي تعيش فيه، وتدور في فلكه، وتهيم في أجوائه.. وتقيّم كل الأمور على أساسه.. فترتبط بها أو تنفصل عنها من هذا المنطلق، وعلى هذا الأساس..

ولقد غاب عنها مع كل أسف أن هذا الشيء الذي ربطت حياتها ومستقبلها ومصيرها به لا يلبث أن يتلاشى وينعدم، ولتواجه من ثم مصاعب الحياة ومصائبها وهي لا تملك بعد فقدها إياه على حسب منطقها أي رصيد تستطيع أن تعتمد عليه في دفع الضرر عن نفسها أو على الأقل في تخفيف مشاكلها..

لأن الرجل.. الذي زين لها ودفعها بشكل أو بآخر لأن تعتبر أنوثتها هي كل ما تملك، وهي ما تستطيع فقط أن تعتمد عليه إنما أراد وهو الذي لا مبدأ له إلا المال واللذة، ولا دين له إلا شهوته ومصلحته أراد أن يتاجر بهذه الأنوثة ويستفيد عن طريقها المال.. أو يحصل على اللذة.. حتى إذا ذوت تلك الزهرة وذبلت ذهب ليبحث عن غيرها، مما يحقق له مآربه، ويوصله إلى أهدافه.، بأساليب أمكر، وبتصميم أكثر وأكبر.. وليتركها هي في منتصف الطريق، وحيدة فريدة، رهينة البلاء والشقاء، وأسيرة التعب والعناء.. لأنها قد ضحت بكل شيء في سبيل لا شيء.

والغريب في الأمر.. أنها لم تستطع أن تدرك أيضاً: أن هذه الأنوثة، وذلك الجمال لم تحصل عليه باختيارها.. فاعتزازها إذن بأمر لا قدرة لها فيه ولا اختيار لها معه لا معنى له، ولا منطق يساعده.. كما أنه لا مبرر لأن تأخذ على أساسه امتيازاً حتى ولو أدبياً تحرم منه مثيلاتها ممن لم يسعفهن الحظ بجمال بارع، أو أنوثة صارخة..

نعم.. لقد أصبحنا نجد أن المرأة في عالم اليوم لا تهتم إلا بما يبرز معالم فتنتها، ويزيد من أنوثتها.. فهي تعيش في عوالم الأزياء، والمساحيق، والموضة.. وتخشى باستمرار أن يسبقها الزمن، وتتجاوزها الأيام.. فتفقد أعز شيء تملكه أو يفوتها الموديل الذي سوف تعتز به، أو فقل تستعين به على إظهار ما تعتز به، وعرضه في سوق المتاجرة فيما لا ينفع ولا يجدي، ولا يجر على الإنسانية أي نفع أو فائدة إن لم يكن عكس ذلك هو الصحيح..

أما الإسلام.. هذا الدين السماوي الخالد، فلقد ألغى كل الامتيازات القائمة على أساس الفتنة والإغراء، والاعتزاز بالأنوثة. واعتبر أن أساس التفاضل بين بني الإنسان هو التقوى ورضا الله والأخلاق الرفيعة والفاضلة الرضية. نعم لقد جعل العمل هو الميزان والمقياس وجعل الأساس للاعتزاز به لكل الناس بما فيهم المرأة هو الهدف الذي من أجله وفي سبيله يكون ذلك العمل، فكلما كان الهدف سامياً رفيعاً كلما كان ذلك مصدر اعتزاز وتقدير للإنسان..

وحيث إن العقيدة الإسلامية هي التي تمثل أرفع المبادئ وأسماها.. وأجل الأهداف وأعلاها.. فإن من الطبيعي أن يكون لنسبة التمسك بمبادئ الإسلام، وحجم العمل من أجله وفي سبيله.. أثر كبير في الحصول على الامتيازات، والاستحقاق والتقدير والاحترام في مختلف المجالات.. والدين والعقيدة والإسلام إذا كان هدفاً للإنسان أي إنسان.. فإنه لا ينفك في أي من الظروف والأحوال عن أن يكون مصدراً لعزته وشرفه وسؤدده سواء في حال شبابه أو في حال طفولته، أو في حال هرمه وشيخوخته.. وسواء أكان جميل المنظر جذاباً أو غير جميل ولا جذاب، وسواء أكان غنياً أو كان فقيراً وهكذا.. فهو له ومعه في كل ظرف وفي كل حين.. معه في هرمه كما كان معه في شبابه.. معه في قوته كما هو معه في ضعفه، معه في غناه كما هو معه في فقره.. وعلى هذه فقس ما سواها..

وإننا حينما نعتبره له ومعه.. فإنما يعني ذلك أنه معه وله بكل ما لهذه الكلمة من معنى يتفاعل معه وينسجم معه ويعيش له ويعمل له ويفني فيه وجوده، وتذوب فيه شخصيته، ويجري فيه مجرى الدم.. ويتحكم بوجوده تحكم الروح بالجسد، وبكلمة: أن يعود في الحقيقة إسلاماً حياً يمشي على وجه الأرض..

ولا يمكن أن يكون الذوبان في الإسلام، وتجسد الإسلام، خيالاً عذباً يراود مخيلتنا من حين لآخر. كما أنه لا يجوز أن نعتبر أن الذوبان في الإسلام والتفاعل معه لا يتيسر إلا للأنبياء وأوصيائهم (ع).. فلقد ربى النبي (ص) وكذلك علي (ع) من بعده، وبعده الأئمة المعصومون من أبنائه (ع)، الكثير الكثير من هذه النماذج الحية للإسلام، التي تعيش الإسلام بكل وجودها وكيانها وتفديها بكل ما تملك من غالٍ ونفيس.. لقد ربوا الكثيرين ليس رجالاً فحسب وإنما رجالاً ونساء..

فكانت النساء كالرجال في إيمانها وتضحياتها ومواقفها. نعم كالرجال.. بل ولقد زدن عليهم.. وحينما ننظر إلى تلكم النساء اللواتي صنعهن الإسلام.. فلا نكاد نعثر، ولا يمكن أن نعثر على واحدة منهن تعتبر المصدر لعزتها وسؤددها هو جمالها وأنوثتها أو فستانها أو مساحيقها، ولا نكاد نجد فيهن شيئاً من ملامح الضعف والوهن.. بل هن يكدن يذبن حناناً ورقة في موضع الرقة والحنان.. وهن تزول الجبال ولا يزلن ولا تزعزعهن الرياح العواصف في موقع الحزم والصبر والشجاعة وهن يضحين بكل شيء مهما عز وغلا في موضع التضحية والفداء..

ولنا في تاريخ الإسلام الكثير من الأمثلة على ذلك.. ولا نريد أن نذكر فاطمة (صلوات الله وسلامه عليها) ومواقفها السياسية والعقيدية، ولا نريد أن نذكر خديجة وصبرها وتضحياتها..

وإنما نكتفي بالإشارة إلى موقف واحد من مواقف بنت فاطمة وعلي (ع) وأخت سيد الشهداء الحسين بن علي (صلوات الله وسلامه عليه)..

إنها زينب عقيلة بني هاشم وبطلة كربلاء..

زينب.. التي كانت تعتز بدينها وعقيدتها.. وتعتز بخلقها الرضي وسجاياها الرفيعة، وأدبها الجم.. زينب.. التي كانت تعتز بسلوكها المثالي، ومواقفها الرائدة، وعلمها النافع ورأيها الحصيف.. زينب.. التي كانت أبعد ما تكون عن حب المال والجاه والشهرة.. زينب التي كانت أبعد ما تكون عن الميوعة والابتذال والمهانة.. زينب.. التي كانت لا تعرف الأزياء ولا فواتير الطعام ولا غير ذلك مما يعرفه فتيات ونساء اليوم..

زينب هذه.. قد صنعت في مصنع الإسلام، وربيت تربية الإسلام وعاشت الإسلام عقيدة سلوكاً وهدفاً..

نعم.. زينب هذه.. لها مواقف ومواقف أين منها مواقف أفذاذ الرجال، وعظمها التاريخ.. لها مواقف ومواقف في كربلاء، وفي الكوفة وفي المدينة.. وفي الشام.. وفي كل مكان تواجدت فيه..

ولن نستطيع أن نستوفي الحديث عن مواقف زينب الرائعة والرائدة ولا أن نلم ببطولاتها النادرة.. ولذا فنحن نكتفي بتسجيل لمحات عن موقفها في الشام مع يزيد الطاغية.. وبالأخص تسجيل مقارنة سريعة بين موقفي كل من: زينب الحق والخير والمعرفة والوعي. ويزيد الخمور والفجور والظلم والطغيان والجبروت.

فيزيد.. هو صاحب الجاه والسلطان.. ويرى نفسه ملكاً على أعظم إمبراطورية في العالم، والناس كلهم تحت طاعته، ورهن إشارته..

ويزيد.. يملك الرجال، والجيوش التي تدافع عنه وتحمي سلطانه، وتخنق كل صوت يرتفع ضده، وتسحق كل مخالف ومناوئ له.. ويستطيع أن يضرب بيد من حديد ويقضي على كل حركة أو إشارة من أعدائه.

ويزيد.. يملك مقدرات أعظم دولة على وجه الأرض.. وكل الأموال الهائلة تجبى إليه من أقطار الأرض، فالمال كل المال له، وبين يديه، ومن أجله وفي سبيله.

ويزيد.. هذا الذي يرى نفسه أعظم رجل على وجه الأرض ويملك كل أساليب القوة والقهر والسلطان.. يرى نفسه أيضاً أنه هو المنتصر الفاتح، ويرى أن انتصاره كان سريعاً وساحقاً.. وهذا مما يزيد في غروره وطغيانه، وتجبره، وغطرسته.

ويزيد.. لم يعرف غير النعيم والرخاء، والطاعة العمياء من كل من حوله..

ويزيد.. في وطنه وفي بلده.. حيث نشأ وعاش وتربى.. ولا يحس بغربة، ولا بوحشة..

ويزيد.. يرى الدنيا تضحك له ويرى نفسه قادماً على مستقبل مشرق رغيد، يجد فيه كل أحلامه وأمانيه ومشتهياته..

ويزيد.. في أعز مكان يمكن أن يكون فيه، على تخت ملكه، وفي قصره وفي مجلسه، وعلى بساطه..

ويزيد.. لم يفقد أحداً من أعزائه وأحبائه في حرب كربلاء، ليفت فقده في عضده ويجرح كبرياءه، ويخفف من عنجهيته.

ويزيد.. رجل وشاب.. والرجل بطبيعته وبالأخص إذا كان شاباً أقوى على تحمل المصاعب، ومواجهة المشكلات من المرأة، وأقدر منها على مواجهة الصدمات ولاسيما العاطفية منها.

ويزيد.. الرجل الشاب الفاتك، ذو البطش، الذي لم يكن ليقف في وجهه شيء ولا يمنعه شيء حتى الدين من أن يرتكب أي عظيمة، ويقترف أي جريمة ولا يخاف شيئاً، ولا يرهب من شيء في سبيل ملكه وكبريائه.. بل هو يقتل حتى أبناء الأنبياء، وحتى الشيوخ والأطفال الرضع، وحتى النساء في سبيل وصوله إلى أهدافه، وحصوله على مراداته، مهما كانت رخيصة، وغير معقولة..

يزيد هذا.. يقف في وجهه خصم قوي، ومكافح شديد، ويهينه ويذله، ويبدو هو أمامه خانعاً عاجزاً مقهوراً.. ومما يزيد في مرارة الموقف، ولوعته وألمه أن خصمه في هذه المرة كان "امرأة"..

نعم.. امرأة.. والمرأة أضعف من الرجل وأرق.. كما يقولون وأقل تحملاً في مواجهة الصدمات العاطفية كما يعتقدون..

وامرأة.. مثكولة، ومصابة بأولادها، بأخوتها، بأبنائهم، بنجوم الأرض من بني عبد المطلب وبخيرة أصحابهم وشيعتهم ومحبيهم..

وامرأة.. ليس فقط مثكولة بمن ذكرنا، وإنما هي بنفسها رأت مصارعهم وشاهدت بأم عينها حالتهم البشعة، والتي تقرح القلوب وتدميها...

نعم رأت مصارعهم ورافقت كل الأحداث والمصائب التي مرت عليهم..

وامرأة.. وحيدة، ليس معها من حماتها حمي، ولا من رجالها ولي..

وليس لها جيش يحامي عنها، أو يدافع، ولا بيدها سلاح تملكه أو تلجأ إليه.

امرأة.. ليست تملك من المال شيئاً تسد به رمقها، ورمق من هي مسؤولة عنه، بل تحتاج إلى أعدائها ليساعدوها على حفظ رمق الحياة ومواجهة عقارب الجوع والعطش اللاسعة، والتي لا ترحم أحداً، ولا ترثي لأحد..

وامرأة.. تعاني من ذل الغربة، ووحشة الدار.. وليس فقط الغربة عن بلدها.. بل هي في بلد عدوها وفي يده وتحت سلطته وسلطانه..

وامرأة.. مهزومة عسكرياً أيضاً.

وامرأة.. تعاني من ذل القهر والأسر بالإضافة إلى ذل الهزيمة العسكرية.

امرأة.. تجد الشماتة القاتلة من أهل الشام بها.. حتى لتزين دمشق استبشاراً بالانتصار عليها وعلى أحبتها وبقتلهم وإبادة خضرائهم..

امرأة.. ترافقها رؤوس أبنائها وإخوتها وغيرهم من أحبتها طول الطريق على رؤوس الرماح. بشكل يفتت الأكباد ويدمي القلوب..

امرأة.. هي بالإضافة إلى كل ذلك تتحمل مسؤولية الحفاظ على طائفة كبيرة من الأرامل والأيتام والأسرى والأطفال.. وقضاء حاجاتهم والإشراف على كل حركاتهم..

وامرأة.. قد عانت من مشاق السفر ومتاعبه ما فيه الكفاية..

وامرأة.. لم لكن لها سلطان أو ملك تعتز به، أو تعتمد عليه..

وامرأة.. تقدم على مستقبل مجهول وقاتم ولا تعرف مصيرها فيه ولا مصير كل أهلها وذويها..

وامرأة.. لم تعرف البذخ والترف والنعيم والرخاء، كما كان الحال بالنسبة لبنات الملوك وأبنائهم.

امرأة.. مهما توقعنا منها.. فإننا لا نتوقع إلا أن تنهار، وتنهزم وتبكي وتنتحب وتعجز..

نعم.. هذه المرأة بالذات، وبهذه الخصائص والمميزات تقف في وجه الطاغية يزيد لتذله، وتسحق شخصيته ووجوده بقدميها.. تقف في وجهه، والمواجهة أصعب من الغيبة وعلى بساطه وفي دار ملكه. ويزيد هو من قدمنا تقف وبقوة إيمانها، وصادق عزيمتها لتقول له، وللعالم أجمع: إنها هي التي انتصرت في المعركة، ويزيد فقط هو الخاسر المغبون ولا خاسر غيره..

تقف أمام يزيد لتؤدي رسالتها، ولتعطي الصورة الحقيقية للمرأة المسلمة الواعية، التي لا تتصرف بوحي من عاطفة، ولا يطغى على مواقفها العجز، ولا الضعف والوهن..

نعم.. هذه المرأة تقف في وجه يزيد، وفي دار ملكه، وعلى بساطه وبين جنده، ورجال ملكه، وهي تعاني من ذل الأسر، والقهر، والعدم والثكل.. تقف في وجهه لتقول له عندما سمعته يتمثل بأبيات ابن الزبعري:

ليت أشياخي ببدر شهدوا                 جزع الخوارج من وقع الأسل

لأهلوا واستهلوا فرحاً                 ثم قالوا: يا يزيد لا تشل

قد قتلنا القرم من ساداتهم                 وعدلناه ببدر فاعتدل

ثم زاد عليها قوله:

لعبت هاشم بالملك فلا                 خبر جاء ولا وحي نزل

لست من خندف إن لم انتقم                 من بني أحمد ما كان فعل

تقف لتقول له على ما ذكره طيفور في بلاغات النساء، ص21 والخوارزمي في مقتل الحسين، ج2، ص64 :

"الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على رسوله وآله أجمعين صدق الله سبحانه، حيث يقول: {ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوأى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤون}.

أظننت يا يزيد، حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى أن بنا هواناً على الله، وبك عليه كرامة؟ وأن ذلك لعظم خطرك عنده، فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك، جذلان مسروراً، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأمور متسقة. وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، فمهلاً مهلاً، أنسيت قول الله تعالى: {ولا تحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خيراً لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين}.

أمن العدل يا ابن الطلقاء، تخديرك حرائرك وإماءك، وسوقك بنات رسول الله سبايا؟ قد هتكت ستورهن، وأبديت وجوههن، تحدوا بهن الأعداء من بلد إلى بلد، ويستشرفهن أهل المناهل والمعاقل، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد، والدني والشريف، ليس معهن من حماتهن حمي، ولا من رجالهن ولي..

وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الأزكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء؟!.

وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشنف والشنآن والإحن والأضغان؟!.

ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم:

لأهلوا واستهلوا فرحاً                 ثم قالوا: يا يزيد لا تشل

منحنياً على ثنايا أبي عبد الله، سيد شباب أهل الجنة، تنكتها بمخصرتك، وكيف لا تقول ذلك، وقد نكأت القرحة، واستأصلت الشأفة، بإراقتك دماء ذرية محمد (صلى الله عليه وآله)، ونجوم الأرض من آل عبد المطلب؟!.

وتهتف بأشياخك، زعمت أنك تناديهم، فلتردن وشيكاً موردهم، ولتودن أنك شللت وبكمت، ولم تكن قلت ما قلت، وفعلت ما فعلت.

اللهم، خذ لنا بحقنا، وانتقم ممن ظلمنا، وأحل غضبك بمن سفك دماءنا، وقتل حماتنا..

فوالله، ما فريت إلا جلدك، ولا حززت إلا لحمك، ولتردن على رسول الله (صلى الله عليه وآله) بما تحملت من سفك دماء ذريته، وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته، حيث يجمع الله شملهم، ويلم شعثهم، ويأخذ بحقهم: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يزقون..}.

وحسبك بالله حاكماً، وبمحمد (صلى الله عليه وآله) خصيماً، وبجبرائيل ظهيراً، وسيعلم من سول لك، ومكنك من رقاب المسلمين، بئس للظالمين بدلاً، وأيكم شر مكاناً، وأضعف جنداً..

ولئن جرت علي الدواهي مخاطبتك، إني لأستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك، واستكثر توبيخك، لكن العيون عبرى، والصدور حرى..

ألا فالعجب كل العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء، فهذه الأيادي تنطف من دمائنا، والأفواه تتحلب من لحومنا، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل، وتعفرها أمهات الفراعل.. ولئن اتخذتنا مغنماً لتجدنا وشيكاً مغرماً، حيث لا تجد إلا ما قدمت يداك، وما ربك بظلام للعبيد، وإلى الله المشتكى، وعليه المعول..

فكيد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله، لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا يرحض عنك عارها.. وهل رأيك إلا فند، وأيامك إلا عدد، وجمعك إلا بدد، يوم ينادي المنادي: ألا لعنة الله على الظالمين..

والحمد لله رب العالمين الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة. ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب، ويوجب لهم المزيد، ويحسن علينا الخلافة، إنه رحيم ودود، وحسبنا الله ونعم الوكيل..".

فلم يجد يزيد الذي صعق لهول الصدمة، وارتبك ودهش لم يجد في جوابها إلا أن يقول:

يا صيحة تحمد من صوائح                 ما أهون النوح على النوائح

ومن موقفها هنا وموقفها مع الطاغية ابن زياد.. وأيضاً حينما مشت بقدم ثابتة إلى مصرح أخيها الحسين حيث وضعت يديها تحت جثته واستقبلت السماء لتقول: الله تقبل من هذا القربان.

من كل ذلك نعرف أن سر قول الحسين (عليه السلام) وهو يتوجه إلى كربلاء حينما سئل عن حملة النساء والأطفال معه وهو يعلم أنه يقتل، يقول: إن الله شاء أن يراهن سبايا.

هذه هي المرأة المسلمة التي عاشت الإسلام عقيدة وسلوكاً وهدفاً، وتفاعلت معه.. وذاب وجودها فيه.. قوية حازمة في موقع الحزم والقوة، صابرة محتسبة في موضع الصبر والاحتساب.. وهي أيضاً تفيض رقة وحناناً، حينما يكون ثمة حاجة إلى الحنان والرقة..

هذه هي المرأة المسلمة: التي تمثل المستوى الأعلى للوعي الرسالي.. سياسياً، واجتماعياً، وأخلاقياً، وتربوياً.. إنها مثال الإنسان الكامل.. الذي يسخر بكل الرجال المنحرفين وبالطغاة والمتجبرين.. ويسحق وجودهم وجبروتهم.. والذي يتفاعل مع الأحداث، ويشارك في صنع مستقبل الأمة بإخلاص ووعي وجدية..

ونحن الآن بأمس الحاجة إلى هذه المرأة المسلمة، التي تستهدي بهدى الإسلام، وتتأثر خطى زينب، وتقف مواقف فاطمة، وتضحي تضحيات خديجة..

ونحن في غنى عن هذه المرأة الحاقدة المعقدة التي تمثل الميوعة والسخف بأجلى مظاهرهما، ولا تعتز إلا بأنوثتها، ولا تهتم إلا بمظاهر فتنتها..

نعم.. لا نريد المرأة التي لا تعرف إلا البلاجات، والبارات والمسارح ودور الأزياء.. نحن في غنى عن هذه المرأة، ولسنا بحاجة إليها.. إنها ضرر ودمار على المجتمع والأمة.. وهي أكبر وأخطر من كل سلاح فتاك يتهدد وجود ومستقبل المجتمعات البشرية جمعاء..

إننا نريد المرأة التي تعتز بدينها وعقيدتها، وبوعيها، وبأخلاقها الرضية وسجاياها الكريمة.. وتضحي بكل ما تملك حتى بوجودها في سبيل أهدافها العليا، وقيمها النبيلة.. نريد المرأة التي تتأثر خطى زينب بنت علي (عليه السلام)، وتسير على منهاجها وتؤمن برسالتها..

**************

الإمام الخميني والمرأة.. النظرية والتطبيق

2007-09-05

زينب جمعة

لقد ترك الإمام إثر رحيله مطمئنا إلى مقره الأبدي، إرثا هاما من الأحاديث والأقوال والمواقف المتعلقة بالمرأة، والتي تشكل منطلقا لتكوين رؤيته حول موضوع من أكثر الموضوعات أهمية وإثارة للجدل في الأوساط الإسلامية، وقد كانت أفكار الإمام (قده) جديدة على هذه الساحة في لغتها ونمط خطابها ونمط المرأة التي تدعو إليها. والأمر الذي سأتناوله في هذه المقالة هو أن الرؤية الفريدة الرائدة التي طرحها الإمام حول المرأة أين هي من التطبيق؟ هل أخذت طريقها إليه أم ما زالت متعثرة؟ وإذا كانت كذلك فما هي أسباب تعثرها؟

وغذا ألقينا نظرة تاريخية على تطور الحركة الفقهية نجد أنها شهدت قفزات في القرون الأولى لظهورها ثم بدأت بالجمود منذ ما يزيد على ثلاثة قرون، حيث لم يتغير الكثير من الأحكام الفقهية إلا بشكل طفيف جدا.

وهذا الجمود قد أثر على وضعية المرأة في المجتمع والحياة. وكان موضوع المرأة أكثر الموضوعات إهمالا لدى علمائنا ومفكرينا.

ولم يثر هذا الموضوع من حيث كتابة المقالات وتأليف الكتب إلا في أواخر القرن الماضي ومطلع هذا القرن، وذلك بعد إثارة قضية حقوق المرأة في الغرب وما أسفر عنه ذلك من انعكاسات في عالمنا الإسلامي الذي كان يعاني من هجمة استعمارية ضخمة وغزو عسكري وثقافي.

فكان السبب المباشر لإثارة موضوع المرأة في الشرق هو نيلها حقوقها في الغرب، والواقع ان المرأة عندنا لم تكن تعاني من نفس المشكلة التي عانت منها المرأة الغربية، فالعديد من الحقوق التي نالتها المرأة الغربية في القرن العشرين كانت قد حصلت عليها المرأة المسلمة نظريا منذ بداية الرسالة الإسلامية.

ولكن هنا بيت القصيد فإن التطبيق السيئ والفهم القاصر للإسلام وحالة التخلف العامة التي كانت تسيطر على عالمنا الإسلامي كلها عوامل ساهمت في صبغ الإسلام بصبغة الرجعية والتخلف، واتهامه بظلم المرأة والحط من قدرها.

وانبرى الكتاب والمؤلفون كل حسب وجهة نظره للدفاع أو الهجوم. وقد مضى أكثر من ثلاثة أرباع القرن العشرين دون أن يتوصل احد من علمائنا ومفكرينا إلى رؤية شاملة وواضحة ومنصفة للمرأة. وغالبا ما عولج الموضوع انطلاقا من تجارب ذاتية وأوضاع شخصية كانت تعمم لتشمل النساء جميعا. وهذا ما جعلها قاصرة ومحدودة وتعبر عن ردات فعل أكثر مما تعبر عن رؤية موضوعية، وهذا برأيي سبب التخبط الأساسي في موضوع المرأة، بسبب تداخل الأفكار بالانفعالات والذاتي بالموضوعي، إلى أن قيض الله رجلا قد استطاع ببصيرته النافذة وفكره الثاقب وتجرده عن الأهواء وردات الفعل أن يقدم بشكل جلي وقاطع رؤية إسلامية حول المرأة.

إن أهم ما جاء به الإمام الخميني أنه احترم إنسانية المرأة وأوضح لها دورها وحدد لها كقائد مسؤوليتها في المشاركة في محاربة الظلم وإقامة العدل. لقد حرر الطاقات النسائية التي حرم منها الإسلام طويلا على حد تعبيره، وأطلقها لتأخذ دورها في الحياة والمجتمع.

ونظرة الإمام إلى المرأة لم تكن قط متجزئة ولا أحادية الجانب، فهو كما طلب منها المشاركة في المجتمع، اعتبر أن دورها في التربية يماثل عمل الأنبياء. وفرادة رؤية الإمام وتميزها تكمنان في أنه أعطى روحا جديدة للأدوار والوظائف المطلوبة من المرأة، وأصبحت تنظر إلى نفسها والى موقعها بطريقة مختلفة ملؤها الثقة والأمل والإحساس بالمسؤولية. ويكفي للدلالة على ما نقول أن نذكر قول الإمام "إن تكون المرأة امرأة فخر وشرف ومسؤولية".

ويبقى السؤال: أين هي رؤية الإمام حول المرأة في مجال التطبيق؟

إن الكلام على التطبيق يختلف بين إيران وخارجها. ففي إيران أوجدت آراء الإمام حول المرأة حركة فاعلة في المجتمع الإيراني نحو إعطاء المرأة حقوقها من خلال إيجاد قوانين وتشريعات أكثر إنصافا تجاهها، ومن خلال التجديد الجريء والشجاع في مجال قوانين الأحوال الشخصية التي تمثل لب المشكلة في كل المجتمعات الإسلامية، نظرا لجمودها وعدم تطورها منذ إيجادها إلا في ما ندر.

بينما نلاحظ أنه خارج إيران بالرغم من التأثر الذي أوجدته آراء الإمام على الصعيد الفكري إلا أن التطبيق العملي مازال بعيد المنال.

ومن العوائق التي تطرح أمام التطبيق ادعاءان:

الأول: أن آراء الإمام الخميني (قده) كانت تخص المرأة وحدها ولا علاقة لسائر النساء المسلمات بها.

والثاني: هو أن آراء الإمام الخميني (قده) في المجال الاجتماعي غير ملزمة بعكس آرائه الفقهية. وهذه الاشكالية تعتمد كأساس لتبرير المواقف المتحيزة للبعض ضد المرأة وبالتالي تشكل عقبة كبيرة أمام التطبيق.

أما الادعاء الأول فواضح وهنه، لأن الإمام الراحل على الرغم من توجيه كلامه للمرأة الإيرانية تحديدا إلا أنه لم يكن يعنيها حصرا، بدليل حديثه في وصيته الخالدة عن حرمان الإسلام من طاقات النساء المعطلة عبر التاريخ، لم يكن يعني النساء في إيران وحدها بل كان يتحدث عن النساء المسلمات، خاصة أن حالة الحرمان قد أصابت جميع نساء العالم الإسلامي وليس النساء الإيرانيات وحدهن.

أما الادعاء الثاني، وهو الأهم، فقد كان ومازال مثار نقاش وأخذ ورد. ويبرز السؤال هنا، عندما أطلق الإمام دعوته للمرأة المسلمة لتأخذ دورها وموقعها في الحياة، لم يرفق ذلك بفتاوى فقهية موازية تدعم هذه الدعوة؟ وإذا لم يقم بنفسه بذلك فهل أغلق الباب أمام حركة تجديد الفقه أو وقف في وجهها؟

في الواقع ان عدم تقديم الإمام لفتاوى فقهية جديدة لا يضر مشروعه الكبير لإنصاف المرأة وإعطائها حقوقها. بل إنه لاحظ أن أحد أهم أسباب حرمان المرأة وظلمها كان بسبب الجمود والتحجر والجهل عند بعض علماء الدين. يقول الإمام في وصيته: "قد حررن أنفسهن (النساء) بكل شجاعة والتزام وأخرجن أنفسهن من أسر الخرافات التي أوجدها الأعداء بواسطة الجهلة وبعض المعممين الذين لا يفهمون مصالح المسلمين"[1].

وهذا الكلام إذا ضممناه إلى كلام آخر للإمام في غاية الأهمية في بيانه الشهير إلى العلماء والحوزات الدينية عندما أشار إلى أن الفقه الإسلامي لا ينبغي أن يكون جامدا وأن الزمان والمكان عنصران أساسيان ومصيريان في الاجتهاد". كما طلب في نفس البيان أيضا من الحوزات الدينية والعلماء أن يحيطوا باحتياجات المجتمع المستقبلية، "وأن يكونوا دائما متقدمين خطوات على الحوادث ليكونوا قادرين على اتخاذ ردود الفعل الصحيحة تجاهها، فربما تتغير في السنين القادمة الأساليب المألوفة في قيادة الجماهير وتحتاج المجتمعات الإنسانية إلى الإسلام وأحكامه الجديدة ليحل مشكلاتها"[2].

إذاً نستنتج من ذلك أن الإمام ربما لم يتسن له المجال ولا الوقت لأن يباشر هو بنفسه عملية التجديد والتطوير في مجال الفقه، لكنه أفسح المجال أمام سائر العلماء، بل طلب مهم أن يبدأوا في اعتبار عنصري الزمان والمكان عنصرين "أساسيين ومصيريين" في عملية استنباط الأحكام، وهذا الكلام هام جدا للإمام وهو الذي يفسر لماذا سارت حركة تطبيق فكر الإمام الخميني تجاه المرأة مسارا عمليا في الجمهورية الإسلامية ووصلت إلى مراحل متقدمة على صعيد القوانين والتشريعات، ربما ليست موجودة في أي دولة إسلامية أخرى، بينما ما زلنا نعاني نحن خارج إيران من جمود القوانين بل من جمود الفكر في ما يتعلق بقضية المرأة، ومازال أمامنا مسار طويل لنقطعه، وإني لأرجو أن تعمم تجربة تحديث القوانين المتعلقة بالمرأة والأسرة في إيران ليستفاد منها في كل أنحاء العالم الإسلامي لأنها تجربة التحديث الأولى التي تتم من خلال الشريعة الإسلامية بخلاف محاولات التحديث الأخرى التي تستلهم التجارب والقوانين الغربية وحدها.

---------------------------------

[1] الوصية الخالدة الإمام الخميني إصدار مؤسسات الثورة الإسلامية في لبنان ص 14.

[2] ريادة الفقه الإسلامي ومتطلبات العصر الإمام الخميني دار الهادي بيروت ص 49.

**************

يزخر تاريخ البشرية بظلم لا حدود له

2007-09-05

بسم الله الرحمن الرحيم

مارسه الحكام المستبدون والطغاة بحق المحرومين والمظلومين من بني الإنسان. وإن المظلومين هم الذين كانوا ينتفضون بين برهة وأخرى، استجابة لدعوة عبد صالح من ذرية الأنبياء والصالحين، ضد عروش الظلم فيستنشق الناس نسيم العدالة بفضل تضحياتهم ومعاناتهم.

بيد أن رائحة التفرعن والاستكبار النتنة ما تفتأ أن تعود ثانية ـ عاجلاً أو آجلاً ـ بمساعدة المال والقوة والخداع، لتبدد عبير العدالة وتزكم أُنوف طلاب الحق والحقيقة.

عبر هذا الواقع المرير، وإضافة إلى نصيبها من هذا الظلم التاريخي، ابتليت "المرأة" ـ بوصفها نصف المجتمع البشري ـ بظلم مضاعف يطول شرحه؛ يضاهي الظلم الذي تعرضت له البشرية جمعاء. فالمرأة بوصفها "زوجة"، كانت شريكة الرجل في همومه ومعاناته، ودرعه في البلايا، بل كان ينبغي لها أن تتحمل أعباء المسؤولية في الكثير من الأحيان بمفردها؛ خاصة عندما كان ظلم الطغاة والمحن تودي بحياة زوجها. وفضلاً عن ذلك كلّه، لم تكن المرأة تحظى بشأن أو مكانة تستحق التقدير؛ سواء كانت فتاة في بيت أبيها، أو زوجة إلى جنب زوجها، أو أختاً في علاقتها مع إخوتها، وعموماً كامرأة في مقابل الرجل؛ إذ غالباً ما كان يتم تجاهلها واعتبارها عنصراً ضعيفاً، وحقيراً، ومشؤوماً؛ أو في أحسن الأحوال كائناً يثير العطف والشفقة.

ورغم أن هذا التمييز (بين المرأة والرجل) كان يتباين في الشدة والضعف من مجتمع لآخر، وثقافة وأخرى، وعلى مرّ التاريخ أيضاً؛ إلاّ أنه ـ مع الأسف ـ ليس بالامكان إنكار وجوده واستمراريته، وقد اتخذ في كل مرحلة وبرهة لوناً وصبغة خاصة ليس هنا مجال الخوض فيها.

فكما نعلم، أن عرب الجاهلية كانوا يرون في "وأد البنات" سبيلاً لإنقاذ الأسرة من شرّ البنات. وفيما عدا فترة صدر الإسلام الوجيزة التي استعادت فيها المرأة كرامتها ومكانتها الحقيقية ـ إلى حدّ ما ـ بوحي من القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة، تراجعت مكانة المرأة ومنزلتها ثانية مع تطورات الحياة التي تزامنت مع إحياء التقاليد والنظم السابقة في صبغة الخلافة الإسلامية.

وبالتدريج وبمرور الزمن، أوجدت التصورات المتخلفة عن الإسلام قيوداً جديدة على النساء؛ بقيت آثارها حتى العقود الأخيرة في أوساط التقليديين والمتنسّكين والمتحجرين.

في مثل هذه الظروف، اتخذ الاستعمار وعملاؤه الذين كانوا يبحثون بوحي من نزعتهم التسلطية، عن سبل وأساليب مناسبة للنفوذ والتغلغل الثقافي والسياسي إلى مجتمعنا؛ اتخذوا من مكانة المرأة ذريعة لإشاعة ثقافة العُري والتحلل الخُلقي تحت لافتة الحرية والمساواة.

وفي هذا المجال لم يتوانوا عن استخدام كل الأساليب، تارة بالاستبداد والوحشية وذلك لفرض السفور ومطاردة النساء المحجبات، كما حصل أيام (رضا خان). وتارة أخرى بالأساليب المخادعة والماكرة، إذ راحت أدبيات الأنظمة تحاول رسالة المرأة العصرية المتحررة من قيود الدين، في الاهتمام بمظهرها وجمالها. وبهذا النحو تمّ جرّ ليس النساء وحدهنّ، بل النصف الآخر من المجتمع ـ الرجال ـ أيضاً إلى وادي التحلل. ونرى كيف استبدلت الساحات العامة والمتنزهات وأماكن الترفيه والمسابح و(البلاجات) إلى ميادين لترجمة هذه السياسة الاستعمارية عملياً، وتحولت إلى بؤر للفساد والفسق والفجور وتخدير جيل الشباب؛ إضافة إلى الملاهي والمراقص والمحافل والملتقيات الرسمية وغير الرسمية.

إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار الملاحظات المذكورة آنفاً، سيتضح لنا ـ بنحو أفضل ـ شموخ فكر الإمام الخميني الراحل وعظمة إنجازه وسطوعه، في إحياء هوية المرأة المسلمة الأصلية.

كان الإمام الراحل قد شهد بنفسه ـ عن كثب ـ التطورات المتحجرة التي ترى في المرأة "ضعيفاً و"حريماً" ينبغي الإقفال عليه بعيداً عن الأنظار.

ومن جهة أخرى كان سماحته قد أدرك جيداً بفطنته الباهرة، الدور الذي تؤديه "المرأة" التي يريدها الشاه والاستعمار، في إفساد المجتمعات الإسلامية وانحطاطها، وفقدانها لهويتها، ويأسها وضياعها.

ومن موقعه كمرجعٍ منفتح ومناضل، وباستقائه من الكوثر الزلال لمعارف الإسلام الأصيل، وتأمله الاجتهادي العميق في السنة النبوية الشريفة وتعاليم الأئمة الأطهار (عليهم السلام) آمن الإمام (قدس سره) بدور المرأة، والمسؤولية الملقاة على عاتقها، بنحو تجلّى بوضوح في الثورة الإسلامية بإحياء هوية المرأة المسلمة.

إن هذا الفهم الواعي والعميق لدور المرأة المسلمة ومسؤولياتها، هو الذي دفع بالنساء الإيرانيات إلى خوض معترك الصراع، والمشاركة الواسعة في أحداث الثورة، رغم كل الجهود والمساعي التي بذلتها أجهزة الدعاية الاستعمارية، ورغم التقاليد المتحجرة التي اتخذت صبغة التمسك بالإسلام ذريعة لها. وكانت مشاركة المرأة في أحداث الثورة بدرجة من الشمول والفاعلية، دعت بعض وكالات الأنباء والمراقبين والمحللين إلى نعت الثورة الإيرانية بـ"ثورة الشادور".

ولم يقتصر نشاط المرأة الإيرانية على التظاهرات التي انطلقت لإسقاط نظام الشاه فحسب، بل إنها أدّت دوراً مصيرياً محموداً في جميع مراحل المصادقة على نظام الجمهورية الإسلامية، ودعمه، وإرساء أركانه.

وعلى الرغم من كل التخلف والتأخر الذي خلّفته السياسات والممارسات السابقة، والذي أضحى عائقاً دون تفتّح قابليات النساء وازدهار طاقاتهن وقدراتهن، انطلقت المرأة الإيرانية المسلمة بحركة دؤوبة نشطة لتلافي الظلم والحيف الذي لحقها في الماضي. وفي هذا المجال استطاعت أن تخطو خطوات موفقة على طريق تحقّق المكانة والمنزلة التي تليق بها.

وفي هذا الصدد يمكن التعرّف على المصداق القيّم والمعبّر جداً للدور الذي كان ينشده الإمام الراحل (قدس سره) للمرأة في المجتمع الإسلامي، من خلال تركيبة الوفد الذي حمل رسالته التاريخية إلى غورباتشوف، رئيس الاتحاد السوفيتي السابق؛ إذ أعلن سماحته للعالم عن "موت الشيوعية" عبر إحياءٍ رمزي من خلال وفْد مكوّن من "عالم الدين والجامعي والمرأة". وربّما يمكن القول إن تركيبة الوفد هذه التي أشّرت على صحة وسلامة النبوءة والمعجزة لذلك الشيخ الحكيم، بهزيمة المعسكر الشرقي كانت ـ بحد ذاتها ـ تحمل في طياتها نداءً ومؤشراً على أن إحياء الإسلام، القوة العالمية القادمة، سيكون على الأيدي الكفوءة لهذه الفئات الثلاث؛ إذ ستقيم ـ بوحي من وعيها السليم وتحمّلها لأعباء مسؤولياتها ـ رياض الثورة الإسلامية العالمية على أنقاض الشيوعية والرأسمالية.

وفي هذا المجال، بإمكان السيرة العملية للإمام الراحل (قدس سره) وأحاديثه وخطاباته، ومواقفه الواضحة والصريحة، وفتاواه التي جاءت في إطار الحقوق الشرعية للمسلم، وانطلاقاً من تمسكه التامّ بأصول الدين وأحكامه؛ بإمكانها أن تحدِّد ـ عملياً ـ معالم الطريق لجليل يتطلع إلى المكانة الحقيقية للمرأة.

ففي كل ذلك سيقف أولئك (المتطلعون إلى المكانة الحقيقية للمرأة) الذين يتألمون للضغوط والمضايقات التي تتعرض لها المرأة، والنظرة التقليدية الدونية التي تمارس ضدها ـ للأسف ـ باسم الشرع في الكثير من البلدان التي تدعي الإسلام، فتحول دون تطلعاتهم التي تنشد الحقيقة المواقف المتطرفة لأدعياء حقوق المرأة المنكرين حتى الفوارق الفطرية والطبيعية (بادّعاءاتهم الواهمة بتساوي الحقوق) المخططين عملياً لاضمحلال كيان الأسرة والمراكز المعنوية الأخلاقية؛ سيقف هؤلاء (المتطلعون أمام فكر رجل من ذرية الزهراء المرضية يرى في المرأة مربيةً للإنسان، ومظهراً لتحقيق آمال البشرية، ومن أحضانها ينطلق الرجل في عروجه، بل يؤمن بأنه لو جرِّدت الشعوب من النساء الشجاعات والمربيات للإنسان، فسوف تصار (هذه الشعوب) إلى الهزيمة والانحطاط.

**************

الأسرة في سيرة الإمام الخميني (قده)

2007-09-05

ستون عاماً من العمر قضتها إلى جنب الإمام، رافقته في حياته وشاركته أفراحه وأتراحه، ولا شاهد أقرب و أكثر صدقاً في حكاية حياة الإمام منها. لقد لمست عن قرب عظمة الإمام وخلوصه وتقواه ومعنوياته ونظمه وصدقه، وبكلمة واحدة شخصيته الرفيعة. إنها رأت بأم عينها وأودعت في قلبها كثيراً من الحقائق والدروس الحلوة التي سمعها الآخرون أو قرأها؛ وليست هي إلاّ قرينة الإمام وكريمته وعزيزته الحاجة السيدة الثقفي، التي تحظى باهتمام و تكريم عشاق الإمام.  

إن حكايتها لسلوك الإمام العائلي رواية صادقة عن خصائص القيادة الإلهية المقدسة، وذلك بعد مضي عشرين عاماً من خطّ نسخة فريدة وتبلور نظام إلهي. وقد أجرت ابنتها الدكتورة السيدة زهراء مصطفوي معها لقاءً مطوّلاً، ننشر لكم النص الكامل لهذا اللقاء.

* السيدة مصطفوي: أماه السلام عليكم، أرجو قبول عذري؛ إن كنت موافقة، أردت أن تتفضلي بالحديث المختصر عن حياتك المشتركة مع الإمام، وكذا عن احوالك قبل الزواج، وعن عائلتك من الناحية العلمية والاقتصادية.

ـ قرينة الإمام: وعليكم السلام؛ بسم الله الرحمن الرحيم

 إذا أردت الحديث عن عائلتي فينبغي أن أبدأ من عدة أجيال مضت. فالوالد هو الحاج ميرزا محمد الثقفي كان من علماء طهران، وقد أثر عنه التفسير (نوين) في عدة مجلّدات، وقد كان في أغلب أوقاته مشغولاً بالتأليف، وقلّما يمارس الوظائف الأخرى مثل أخذ الوجوهات الشرعية (أخماس وزكوات)، والاتصال بالتجار وما شابه ذلك. وقد كان يأمّ جماعة. وباعتبار أن الوالدة كانت من عائلة متمولة فقد كان في غنى عن البحث عن مورد. وقد كان والدها الميرزا أبو الفضل الطهراني من نوابغ زمانه، وقد توفي عن عمر يناهز الأربعين، وكان له كتاب (شفاء الصدور) وهو شرح على زيارة عاشوراء. وقد كان الامام يقول: كان السيد الميرزا أبو الفضل من العظماء، وقد طُبع له ديوان شعر بالعربية.

* يبدو انه كانت له مكتبة ضخمة تم وقفها.

ـ نعم كانت له مكتبة ضخمة، وقد سمعت من أبي أنه وهبها لمدرسة (سپهسالار) أي مدرسة الشهيد مطهري حالياً. وقد كانت له دروس في تلك المدرسة اضافة إلى انه كان يصلي هناك.

والده هو الحاج ميرزا أبو القاسم الثقفي كان معروفاً باسم (الحاج ميرزا أبو القاسم كلانتر) وهو من مجتهدي عصره، وأحد كتبه هو تقريرات درس المرحوم الشيخ الأنصاري (من العلماء العظام) وقد كان هذا الكتاب في متناول الجميع.

* على هذا، كان الوضع الاقتصادي لعائلتكم جيداً؟

ـ نعم؛ لقد ورثت جدّتي أباها، وقد كان زوجها مسئولاً عن الخزينة (خازن المماليك) وكان متمولاً. أما الوالدة فكان أبوها يعطيها 30 توماناً يومياً. أما أبي فقد كان طالب حوزة ورغم أنه ما كان يملك شيئاً، إلاّ أن أباه كان يقطن زقاق (صدر أعظم) الذي كانت بيوته ملكاً لأتابك. وأتابك كان زوج عمة أمي. وقد كان العلماء آنذاك يحظون باحترام واهتمام جهاز الحكومة، لأن شؤون الدولة جميعها كانت تحت اشراف العلماء. وقد كان الوالد الحاج ميرزا أبو الفضل يحظى باحترام وتقدير من قبل أتابك، وبما أنهما كانا أقارب، كانت علاقتهما وثيقة.

* يبدو أن الوالد سبق وأن سكن مدينة قم لفترة.

ـ جاء الشيخ عبد الكريم الحائري إلى قم سنة 1340هـ.ق، وباعتبار أن تاريخ ولادتي 1333هـ.ق فإني كنت آنذاك سبع سنوات تقريباً. والدي في السنة التاسعة والعشرين أو الثلاثين من عمره قرّر أن يذهب إلى مدينة قم لأجل الدراسة، وقد كنتُ آنذاك تسع سنين.

ذهب أبي برفقة أمي إلى قم ومكثوا مدة خمس سنين هناك، وأنا لم أذهب معهم بل بقيت عند جدتي، وما كان والدَي يتوقعان التحاقي بهم لأني كنت مع جدتي منذ الصغر.

أنا عشت مع جدتي منذ الشهر السادس مع عمري. وكانت تُدعى السيدة مخصوص، وكنا ندعوها نحن السيدة ماماني. وعندما هاجر والدي إلى قم، كنت مع جدتي نزورهما كل سنتين مرة. لم تكن آنذاك سيارات، بل عربات حصانية ودليجنسات وكنا نبيت في الطريق ليلتين في علي آباد وفي مكان آخر. الوالد كان قد استأجر بيتاً موقراً في زقاق السيد اسماعيل في السوق. البيت كان كبيراً فيه ساحة وبرّاني، وصاحب البيت كان تاجراً محترماً، وقد كان له خادم في البيت باسم ذبيح الله واثنين من الحشم وأشخاص آخرون كانوا يترددون عليه لأجل أداء أعمال مختلفة.

كان لأمي ثلاثون توماناً شهرياً، لذا أرسلتنا إلى المدرسة، وكان آنذاك مدرسة حديثة فيها صف يضمُ عشرين طالبةً، وما كان الكل يتمكن من إرسال أطفاله إلى المدرسة إلاّ بنات الأطباء والتجار والمجتهدين. ونحن كنا ثلاث أخوات نذهب إلى المدرسة ودرسنا إلى الصف الثامن أنا في طهران وأختي في قم، وفي الصف الثامن طرح حديث الزواج.

* بعد ما بلغ الحديث موضوع الزواج، نرجو أن تتكلمي عن زواجك، وكيف الإمام حصل عليك أو وجدك؟

ـ باعتبار أن الوالد قطن قم مدة خمس سنوات، وأنا ذهبت لزيارته عدة مرات، مرة كنت بنت العاشرة وأخرى بنت الثلاثة عشرة وأخرى بنت الاربعة عشر، وفي احدى هذه المرات طلب الوالد من جدتي بقائي إلاّ أنّ جدتي أرادت الاقامة لمدة خمسة عشر يوماً فقط باعتبار قرب العيد. ترجّاها والدي كثيراً قائلاً لها: "لم أشبع من رؤية قدسي، فاتركيها عندنا مدة شهرين، وعندما تأتي إلى طهران في الصيف نأتي بها معنا". وقد رضت الجدّة في النهاية، أما أنا فما كنت راضية على البقاء، رغم ذلك بقيت مدة أشهر. وقد كنت تخرّجت من الصف السادس ولم يوافق الوالد على ذهابي إلى الثانوية، وقد كانت ثانويات البنات آنذاك قليلة جداً، وكان الوالد يقول: "ان المعلمين والمفتشين والفراش كلهم رجال، فلا تذهبي"، ولأجل ذلك بقيت في قم أشهراً، ثم رجعت بصحبة الوالدة إلى طهران.

خلال فترة إقامة الوالد في قم مدة خمس سنوات، تعرّف على عدة أصدقاء، كان السيد روح الله واحداً منهم، ولم يكن حاجاً آنذاك، وهو رجل متدين ونجيب وفاهم وكيّس وقد ارتضاه الوالد رغم اني كنت اختلف معه في العمر اثنا عشرة سنة، أما الوالد فكان يختلف معه بسبع سنوات، ومن بين اصدقاء الوالد هو السيد محمد صادق اللواساني وقد كان صديقاً للسيد روح الله كذلك، وفي الوقت الذي جاء فيه الوالد إلى طهران، كان السيد اللواساني قد تحدث مع السيد روح الله (حيث كان له من العمر 26 ـ 27 سنة) حول موضوع الزواج وقد كان السيد روح الله قد قال للسيد اللواساني: "لم أرتضِ بعدُ ببنت، ولا أريد الزواج ببنت من مدينة خمين"، فقال له السيد اللواساني: "إن السيد الثقفي له بنتان، وكلاهما حسنتان كما تقول زوجة أخي". لقد حكى لي هذا كله أبي بعد ذلك… على كلِّ حال، كان يرتدي الملابس الجيدة، فكان يرتدي الجلود الإسلامبولية ويذهب إلى الدرس. وكان الطلبة يتعجبون من ملابسه؛ فقد كان عالماً ومتديناً وأنيقاً في نفس الوقت. كان أبي لا يدعنا نذهب إلى المدرسة إلاّ بعد ارتداء السروال الطويل وأحذية سوداء وبسيطة، وأكمام طويلة. لكنه ـ روحياً ـ ما كان يحب التجمّل وكان حقاً من أهل العلم وروحانياً. وكان السيد (الإمام) دائماً يقول: "والدك روحاني رفيع المستوى، وصاحب علم وفضل كبير، لكن من المؤسف أنّه ما كان شيء من زمام شؤون الروحانيين بيده".

* بما أنه كان صاحب علم وفضل، لابد وأن كانت له تأليفات؟

ـ أنا لا أعرف عن ذلك شيئاً إلاّ تفسيراً واحداً، وإذا أردت الإطلاع فاسألي من الأخوين السادة علي وحسن، فانهما يعلمان بهذه القضية. ورغم أنّ الكثير قد أخذ منه كتباً مجانياً، ورغم أنه قد وهب مكتبته إلى الجامعة، لا زالت له مكتبة تملأ غرفة كاملة إلى السقف تحتوي على كتبه وكتب والده وكتباً أخرى قد حصل عليها.

* أماه، تكلمي عن كيفية حصول الخطبة؟

ـ ما تقدم كان دافعاً للسيد أحمد أن يقدم على خطبتي للإمام، وقد استغرقت موافقتي على الزواج مدة عشرة أشهر؛ وذلك لأني كنت غير مستعدة للمجيء إلى قم، وكنت عند المجيء إلى قم لا أقيم أكثر من 10 ـ 15 يوماً، وبعد ذلك كنت أطالب جدتي بإرجاعي إلى طهران. وذلك لأن قم لم تكن كما هي الآن؛ فقد كانت مكتظة بالمقابر، والقبور كانت ملتصقة بجدار صحن الحرم، والأزقّة كانت ضيقة و… فما كنت أقيم في قم كثيراً، بل أرجع في وقت مبكر، وقد كنت منزعجة عندما أرغمني الوالد مرة للبقاء في قم مدة شهرين.

لقد بدأت مراحل الخطبة، وقد قال لي أبي آنذاك: "لا إشكال من جانبي، حتى لو غرّبك عن جدتك وبعدك عنها، لأنه إنسان لا يدع السيدة قدسي تتأذى". وباعتبار صداقته مع السيد، كان يعرفه جيداً. أما أنا فكنت أقول: لا أذهب إلى قم أبداً، وكانت هناك أمور تجعلني أكره الذهاب إلى قم.

* إذن ما حصل أن ذهبت إلى قم؟ يبدو أنك رأيت مناماً إذا كنت تذكرين ذلك.

ـ رأيت منامات مباركة، أدركت بعدها أن هذا الزواج مقدّر، وفي آخر مرّة التي تمت القضية بعدها، رأيت الرسول وأمير المؤمنين والإمام الحسن مجتمعين في بيت صغير، وقد كان نفس البيت الذي استأجرناه للعرس.

* أي أنك رأيت بيتاً في المنام، كان هو ذاته الذي أجرتموه للعرس، هكذا؟

ـ نعم؛ نفس الغرف والمواصفات التي قد رأيتها في المنام، وحتى الستائر التي قد اشتروها لنا بعد ذلك كانت نفسها التي قد رأيتها في المنام، ففي ذلك الجانب من البيت غرفة جالس فيها الرسول والأمير والإمام الحسن، وفي الجانب الآخر الذي يضمّ غرفة للنساء (التي اصبحت فيما بعد غرفة العروس) أنا كنت فيها مع عجوز مرتدية عباءة منقّطة بنقاط صغيرة وكان يقال لها (جادر لكي)، وهي عجوز ذات ملامح ناعمة، وقد كان الزجاج يشكل جزءً من باب الغرفة وكنت أنظر من خلال هذا الزجاج. سألت العجوز: مَن هؤلاء؟ فأجابت: ان الذي على رأسه عمامة سوداء هو الرسول (ص). والرجل الذي له مولوي أخضر (عمامة صغيرة) وقبعة حمراء يتصل بها شال (وقد كانت هذه الملابس مألوفة آنذاك)، وفي النجف كان الخادم يرتدي هذا الزي من الملابس) هو أمير المؤمنين. وفي ذلك الجانب شاب يرتدي عمامة سوداء، قالت فيه العجوز انه الإمام الحسن. وبعدها قلت: هذا الرسول وذلك الأمير، وبدأت بإبراز الفرح؛ فقالت العجوز: "أنت التي تكرهين هؤلاء!!". فقلت: "كلا، أنا لا أكره هؤلاء، بل أحبهم" ثم قلت: "أنا أحب هؤلاء جميعهم؛ فذلك رسولي وذلك إمامي الأول والآخر إمامي الثاني". قالت العجوز: "أنتِ تكرهين هؤلاء"، وفزعت آنذاك من النوم، كنت منزعجة لِمَ استيقظت بسرعة. وفي الصباح حكيت المنام لجدتي، فقالت جدتي: "أماه؛ يبدو ان هذا سيد حقاً، وأنت قد آذيت الرسول والأئمة برفضك إيّاه، فلا حلّ للمشكلة إلاّ رضائك؛ وهذا هو تقديرك".

* متى كان البناء أن تخبرونهم بالجواب؟

ـ كنت أجيب بالرفض كلّما كانت تقترح عليّ جدتي الموضوع؛ والجواب النهائي كان مبهماً. وكان السيد أحمد اللواساني يأتي ليلياً من قبل الخطيب ويسأل عن الجواب؟ وتتكرّر منه هذه الممارسة، وكان جواب جدتي: لم ترضَ النساء بعد. وباعتبار الصداقة التي كانت بين السيد أحمد والوالد، كان يأتي بين الحين والآخر بعربة ويقيم ليلتين أو ثلاثة في بيت الوالد ثم يرجع إلى قم.

وبعد مضي فترة، وفي المرّة الخامسة من مجيء السيد أحمد خلال شهرين أراد الجواب الأخير؛ فأراد الوالد أن يقول له "لا يمكنني أن أوافق، لأن القضية تتوقف على إرادة البنت والأمر بيدها وبيد جدتها، ونحن نكنّ لجدتها الاحترام الوافر". وعدم موافقة جدتي كان بسبب أن شريكها في الأملاك قد خطبني.

* والدك كان نيّراً كثيراً، وملتزماً بضرورة احراز رضاك ورضا جدتك، عكس ما كان عليه الآباء آنذاك في عدم الالتفات إلى متطلبات البنات.

ـ نعم، نعم، عندما استيقظت صباحاً، حكيت المنام إلى الجدة، وبعد ان جمعنا مائدة الافطار دخل الوالد، وقد كان ذلك في الشتاء والمدفأة تعمل، وكل ذلك كان بغتة ومن دون سبق قصد وبرمجة.

* أي أن المنام، واستشارة الجدّة، ودخول الوالد البيت كلها حصلت دفعة وفجأة.

ـ نعم؛ وبعد دخول الوالد أتيت أنا بالشاي، فقال: "جاء السيد أحمد للمرة الخامسة وقال لي كلاماً لا قدرة لي على النطق به" والكلام الذي كان قد تفوّه به السيد أحمد بعد ما قال له أبي إن النساء غير موافقات، هو: "إنها عاشت مرفّهة، ولا يمكنها أن تكيّف نفسها مع حياة الطلبة البسيطة، وهذا كلام يقوله المخالفون".

الجميع كان مخالفاً، أولهم أنا ثم الجدة والأم والأقارب. والوالد كان يقول: الأمر إليكم، لكني أثق به كرجل مثقّف ومتدين، وديانته تحول دون قضاء السيدة (قدسي إيران) أوقاتاً مزعجة.

قال لي الوالد: "إذا لم تتزوجي حالياً، فلا علاقة لي بزواجك بعد ذاك".

كنت في الخامسة عشر من عمري وكنت أحترم الوالد كثيراً. وكنت لا أتردد أمامه من دون عباءة وعندما يدعونا كنا نأتيه مرتدين العباءة ـ عباءة كانت، لي أو لأختي. أنا سكتّ آنذاك. جاءت الجدة بالكز (نوع من الحلويات التقليدية الايرانية) كمراسم استقبال، فقال الوالد: "أتناول الكز كعلامة على موافقة السيدة قدسي ورضاها"، وأكل قطعة الكز. أما أنا فما تفوّهت بشيء لأن عظمة المنام كانت قد استحوذت عليّ. وقد غادر الوالد البيت بعد تناوله الكز.

وبعد اسبوع جاء السيد أحمد اللواساني والسيد بسنديده والسيد الهندي (أخوا الإمام) والسيد محمد صادق اللواساني والخطيب بصحبة خادم كان باسم مسيّب جاءوا جميعاً إلى بيت الوالد لأجل الخطبة، وقد كانوا جميعاً اصدقاء إلاّ السيد الهندي.

فأرسل الوالد، الخادم ذبيح الله إلى بيتنا وقال: "إن السيدة عندها ضيوف وطلبت مجيء السيدة قدسي إيران إلى البيت". سألته الجدة: "من هو الضيف"؟ كانوا قد أوصوه أن لا يصرّح لهم بمجيء الخطيب إلى بيت الوالد خوفاً من تكرر الرفض من قبلي؛ وبعد ما ذهبت إلى بيت الوالدة فهمت الموضوع.

إن اختي التي كانت أصغر مني سنة ونصف السنة، صرخت "جاء العريس! جاء العريس". وأخذوا بي لأرى العريس من خلف الغرفة، وكان جالساً في موقع بحيث يكون أمام من أراد النظر إليه من خلف الغرفة. وقد كان السيد أصفر الوجه، ذات شعر أصفر بعض الشيء، جالساً قرب المدفأة؛ وعندما رجعت، ذهبت أمي وأخواتي لرؤيته، لأنهن ما كنّ قد رأينه من ذي قبل.

* هل ارتضيت العريس؟

ـ ما وجدت فيه بأساً، إلاّ أني كنت أصغر من أن أتّخذ قراراً، كما كنت ذاتياً بسيطة. رجع الوالد ببطء وسأل الوالدة: "ما قالت قدسي إيران بعد ما رجعت؟". وقد قيل لي فيما بعد ان الوالد عندما رآني ساكتة خرّ ساجداً لله. لأنه كان قد ارتضى العريس بنفسه. وكان يردد دائماً "قلبي يميل إلى أن يكون لي ولد من أهل العلم وعريس كذلك" وقد حصل ذلك. حيث ان ولده الثاني السيد حسن أصبح من أهل العلم كما كان الوالد نفسه.

* هل الوضع المعيشي بعد الزواج كان مثل وضعك قبل الزواج؟

ـ في البداية عندما أراد السيد أن يتزوج، وكان البناء أن يجيبه الوالد بالايجاب، قال الوالد للسيد أحمد: إنّ النساء يُشكلون على الزواج. فسأل السيد أحمد ما هي اشكالاتهم؟ أجاب الوالد: أحد الاشكالات هو أن البنت لا تعرفه وهو من مدينة خمين والبنت من طهران وقد عاشت مرفّهة، والوضع المالي والمعيشي لجدّتها جيد جداً، وقد لا تتكيف في العيش مع طالب حوزة ومعيشته الخاصة. وهل يملك الخطيب شيئاً؟ فإذا كان مورده الوحيد مرتب الشيخ عبد الكريم، فلا يمكنها العيش معه حقاً؛

* أماه! سمعت أن العرس كان في شهر رمضان المبارك، رغم أن المألوف هو حصول العرس في غير هذا الشهر، لماذا؟

ـ لأن الدروس كانت معطّلة.

* وهذا يعني أن الإمام كان بدرجة من الالتزام بالدرس بحيث ما كان مستعداً لتعطيل دروسه حتى لأجل الزواج.

ـ نعم كان ملتزماً.

* هل مراسم العقد والعرس كانت مجلّلة أم بسيطة؟

ـ العقد لم يكن مجلّلاً. كان الوالد جالساً في المضيف ودعاني إلى المجيء قربه، وقد كنت قادمة من المدرسة توّاً، فوضعت عباءة اختي الصغيرة على رأسي وذهبت قربه: قال: اجلسي في ذلك الجانب من المدفأة؛ إن عائلة العريس جاءوا في اليوم الأول من شهر رمضان واليوم هو الثامن من الشهر ووالدتكِ استقبلتهم بحفاوة مذ ذاك. فهم قد أقاموا في بيت الوالد.

كانوا يبحثون عن بيت يستأجرونه لأخذ العروس، وقد كان القرار أن يتم العرس في طهران ثم نذهب إلى قم. وقد وجدوا بيتاً بعد ثمانية أيام. وقد كان نفسه الذي رأيته في المنام، وقد قال لي الوالد: "وكّليني لكي أوكّل السيد أحمد لإجراء صيغة العقد في شاه عبد العظيم". والسيد كان قد وكّل أخاه السيد بسنديده. وعندما طلب مني والدي هذا تأملت بعض الوقت وقلت: "رضيت". ثم ذهبوا إلى شاه عبد العظيم لاجراء صيغة العقد. وبعد أن قالوا إنا هيّأنا البيت، قال الوالد: أعطوهم وسائل البيت. وقد كانت الوسائل عبارة عن سجادة وملحف ومدفأة ووسائل الطبخ وأشياء اخرى؛ كما أرسلوا معي مربيتي مع بنتها عذراء لأجل الاستقبال والطبخ. وفي الليلة الخامسة عشر أو السادسة عشر من شهر رمضان دعا السيد الأصدقاء والمعارف وقد ارتديت آنذاك ثوباً أبيض وأنيقاً كانت بنت العمة قد خاطته وطرزته بالورد حسب ذوقها الحسن.

* ما كان مقدار صداقك؟ وهل مقداره كان باقتراحٍ منكم أو من السيد الوالد؟

ـ كان 1000 تومان. وكانوا قد قالوا للوالد بالامكان جعل دارٍ من دورنا في خمين صداقاً للبنت؛ إلاّ أن الوالد رفض ذلك باعتبار جهله بأسعار الأملاك في مدينة خمين.

* هل طالبت بصداقك؟

ـ كلا، لم أطالب. لكنه أوصى في نهاية الأمر بسدس بيته في قم كجزء من الصداق.

* هناك نظرية مطروحة تقول إن التي كان صداقها قبل ستين سنة مقداراً معيناً كألف تومان، فهي لا تطالب حالياً بأكثر من ألف تومان. وهناك من يقول إن المطالبة حالياً بما يعادل قيمة الألف تومان في ذلك الزمان.

ـ نعم؛ إنّ الألف تومان آنذاك تكفي لتجهيز العروس بجهاز كامل. وقد جعل لي سهماً في البيت ظناً منه أني قد احتاج السكن في البيت يوماً ما.

* كيف كانت معاملته لكِ عموماً؟ هل كان يكنّ لك نفس الاحترام الذي كنت تحضين به قبل الزواج أم لا؟ وهل هذا الاحترام كان مستمراً إلى آخر أيام حياته؟

ـ نعم؛ كان يحترمني ويهتمّ بي كثيراً، وما كان يجرحني بكلمة واحدة. وفي يوم من الأيام كانت بنتاه صدّيقة وفريدة ـ أما أنتِ فقد كنت صغيرة ـ قد ذهبا إلى بيت الجار من السطح، فاعترض على ذلك وكان متوتراً وقلقاً، ظناً أن في بيتهم خادماً، فكنت أطمئنه بأن الخادم لم يكن آنذاك؛ ورغم عصبيته التي قد تصل إلى قمتها ما كان يسيء الأدب تجاهي. كان يختار لي مكاناً جيداً من الغرفة ويتجامل في تقديمي على نفسه.

وما كان يبدأ تناول الطعام قبل مجيئي. وكان يطلب من الأطفال أن يتأنوا في الأكل إلى مجيء الوالدة. ما كان يتفوه بكلام بذي أبداً. ولكني لا أقول أنه وفّر لي حياة مع رخاء؛ بل حياته كانت بسيطة باعتبار أنه كان طالب حوزة. وما كان يحب أن يمدّ يده إلى الآخرين للسؤال، كما كان ذلك حال أبي. فكلاهما كان يحبان العيش بما كان في أيديهم من ميزانية. رغم ذلك كان يحترمني. وكان يرفض عملي في البيت. كان يقول لي دائماً: لا تكنسي. وإذا ما أردت غسل خمار أحد الأطفال في الحوض كان يأتي ويقول: "قومي؛ ما عليك أن تغسلي ذلك". كنت أكنس الغرفة في غيابه وكذلك الحال بالنسبة لملابس الأطفال، فقد كنت اغسلها في غيابه. وفي سنة من السنوات التي غاب فيها خادمنا الدائم ـ كنا آنذاك في الإمام زاده قاسم، أي في السنوات الأخيرة حيث كبر الأطفال وتزوجوا ـ كنت أذهب لغسل الأواني بعد إتمام وجبة الغذاء، وكلّما كان يراني هناك ـ وقد كانت فريدة موجودة في بيتنا ـ كان يأمر فريدة بغسل الأواني عوضاً عني.

* أمي العزيزة! إن هذه المطالب الصريحة والواضحة تكشف عن أن الإمام ما كان يعدّ غسل الأواني بل حتى خمار أحد اطفالك من وظائفك. وكان ينزعج من قيامك بهذه الأعمال في الحالات التي تتطلب الحاجة منك القيام بها بنفسك، ويعدّ ذلك اجحافاً لك. وأنا أذكر جيداً أنه ما كان يأمرك بغلق الباب عند دخولك الغرفة، بل يقوم هو بعد جلوسك ويغلق بنفسه. إن احترام الإمام لك كان ولايزال مما اشتهر عنه. لقد سمعت أنك درست عند الإمام، أرجو ايضاح ذلك.

ـ بعد مرور سنة واحدة على اكمالي للمرحلة الابتدائية ذهبت إلى الاعدادية ودرست الأول المتوسط هناك، وبعد مضي شهرين من دراستي استأجرت معلمة تعلمني الفرنسية، كما ودرست شهرين عند معلمة أخرى. كنت أمنح كل منهما 2 تومان شهرياً. بعد قدوم والدي من قم إلى طهران تعلمت على يديه كتابة جامع المقدمات مدة من الزمن وبعد ان تزوجت استمر السيد الإمام في تعليمي، وبعد اطلاعه على قابليتي يبدأ بتدريسي جامع المقدمات، وقد درست جميع دروس جامع المقدمات؛ بالطبع بدأت في السنة الأولى بدراسة علم الفلك، وبعد ذلك بدأت بجامع المقدمات. وعندما شرعت بالسيوطي كان لي طفلان، وعندما أتممت دراستي له كان لي أربعة أطفال، وعندما جاء الطفل الرابع وهو فريدة، أصبحت معدومة الفرصة للدراسة، رغم ذلك شرعت بدراسة شرح اللمعة. وبعد فترة من الزمن وجدت نفسي عاجزة عن الاكمال، فتركت الدراسة؛ وقد استغرقت دراستي ثماني سنوات. وبعد إنطلاق الثورة ذهبنا إلى العراق. فبدأت بدراسة اللغة العربية، وبما أنّي كنت أفقد الصديقات شرعت بتعلّم العربية من خلال الكتب الدراسية؛ فتناولت كتاب الثالث الابتدائي ثم السادس ثم الصف التاسع اخذته من "حسين"، وبما اني كنت أجهل بعض الكلمات، جاء لي أحمد العزيز بمعجم فارسي ـ عربي عندما سافر إلى طهران. ثم مالت نفسي إلى مطالعة القصص الروائية الجميلة، ورغبتي بها كان دافعاً لي على مطالعتها. وسبب تركي للدراسة في وقت مبكر من عمري هو عدم وجود المشجعين لي على ذلك، رغم ان رغبتي للدراسة كانت شديدة قياساً لما كان عليه المعارف والصديقات.

* إن تخصيص الإمام وقتاً لتدريسك مدة ثمان سنوات في بداية الزواج، يُعدّ تشجيعاً لك على مواصلة الدراسة، وقبل هذا كنتِ قد ذهبت إلى المدرسة لا الكتاتيب رغم ان أكثر الناس آنذاك بل حتى أنا ذهبت إلى الكتاتيب لا المدرسة، وهذا هو بذاته تشجيع لك على التعلّم والدراسة.

ـ نعم؛ ان قبوله تدريسي واستمرار هذا التدريس مدة ثمان سنوات كان نوعاً من التشجيع. لكن لو كان أربعاً من أمثالي يدرسن ويتباحثن معي لكانت النتيجة مختلفة. فالطالب يتشجع إلى الدراسة عندما يرى زملائه في الصف يدرسون معاً؛ كنت أقرأ القصص الروائية في العراق، وعندما تطورت عربيتي بدأت بقراءة الجرائد والمجلات وبلغت مستوى أني طالعت في السنة الأخيرة من إقامتنا في العراق كتاب "الحضارة الإسلامية" باللغة العربية.

* أمي العزيزة! باعتبار اطلاعي على مستواكِ العلمي ومستوى طلاب الجامعات، فإنّي أعدّك بمستوى الجامعيين المتفوّقين، وذلك بفضل مساعيك الشخصية وتشجيع سماحة الإمام. فالإمام كان يسعى دائماً لرفع مستواك العلمي؛ ويا ترى هل كان يتدخل في شؤونك الخاصة مثل اختيار الملابس والخروج من البيت؟

ـ كلا؛ أذكر في الاسبوع أو الشهر الأول من حياتنا المشتركة انه قال لي: لا علاقة لي بشؤونك الخاصة وارتدي ما تحبين من الملابس، وما أريده منك هو الالتزام بالواجبات والاجتناب عن المحرمات، أي أن لا ترتكبي ذنباً. ما كان يؤكد على المستحبات كثيراً. ما كان يتدخّل في شؤوني؛ فكنت أعمل وأعيش بالشكل الذي تهوى إليه نفسي؛ فما كان يتدخل بلقاءاتي مع الصديقات ولا في خروجي من البيت؛ فقد كان مشغولاً بالدرس والتحصيل وأنا مشغولة بشؤوني الخاصة.

* أماه! كنت حظيظة أن كان زوجك عارفاً بالإسلام، حيث كان عالماً بحدود صلاحيات الرجل في مجال التحكم بالمرأة؛ ولذلك ما كان يتدخل في شؤونك الخاصة؛ بل ما كان يطلب منك إلاّ أداء الواجبات والانتهاء عن المحرمات، وهذا هو معنى التسليم إلى الله.

أماه! تفضلي بالحديث عن القضايا السياسية أثناء الثورة وقبل ذلك؛ هل الإمام كانت تربطه علاقة بالسيد الكاشاني؟

ـ إن السيد الإمام كان يحب السيد الكاشاني. عندما جاء السيد إلى طهران وأقام في بيت الوالد مدّة ثمانية أيام، كان قد التقى بالسيد الكاشاني آنذاك وبيت السيد الكاشاني كان في نفس الزقاق الذي كان فيه بيت الوالد. وكانا صديقين، وفي ذلك الوقت قال السيد الكاشاني للوالد: "أين وجدت هذه الاعجوبة".

* بهذا يتضح أن السيد الكاشاني قد أدرك ذكاء الإمام ونباهته منذ أن رآه في المرة الأولى. ويبدو أنه قد أدرك منذ ذلك الحين أن الإمام يختلف عن باقي الطلاب. ماذا فعل الإمام في قضية نواب صفوي؟

ـ أرادوا اعدام نواب صفوي وأخوته وكنت صديقة لأمهم. وقد ذهب السيد الإمام آنذاك إلى السيد البروجردي لأجل التدخل في القضية، إلاّ أن السيد رفض ذلك، فاُعدموا.

* ما هي ذكرياتك عن بداية النضال عام 1342هـ.ش [1963]؟

ـ كانوا يصادرون الأملاك بالقوة ويعطونها إلى الرعية. وكان السؤال عن حلية الزراعة والخبز الناتج عنها يتكرّر دائماً. بعد فترة ذهبت أنا برفقة مصطفى إلى النجف وكربلاء. وقد سمعنا هناك تدهور الأوضاع في إيران. وكان السيد مصطفى قلقاً تجاه الأوضاع، ويطالبني بالرجوع إلى إيران. وعندما رجعنا وجدنا البيت مكتظاً بالناس، فذهبنا إلى بيت أخيكِ، وقد تبدل بيت السيد مصطفى إلى مقهى. والاضطرابات أخذت بالازدياد، إلى أن بلغت نقطة خطاب الإمام يوم عاشوراء. وقد كان ذلك اليوم صوت همهمة الإمام وتنفّسه مشهوداً في البيت. جاءوا تلك الليلة وركلوا الباب، ذهب السيد لهم وقال: لا تركلوا الباب، فقد جئت. وفي أثناء ارتدائه لقباه وعباءته كسروا الباب وداهموا البيت، وأخذوا السيد معهم. كان محتجزاً في دارٍ مدة يومين أو ثلاث، ثم نقلوه إلى سجن قصر احتجزوه هناك مدة 10 أو 12 يوم، وما كان مسموحاً لنا بأخذ طعام له. ويبدو أنهم كانوا يذهبون إليه وينصحونه لرفع اليد عن نضاله. طالب السيد بكتاب دعاء وملابس فأرسلنا له ما أراد. وبعد ذلك نقلوا السيد إلى عشرت آباد ليضلّ هناك مدة شهرين، ما كانوا يسمحون لأحد الالتقاء به أو الإتيان بشيء له إلاّ الطعام، لهذا جئنا إلى طهران في بيت الوالدة وكنا نرسل له الغداء كل يوم. ثم اُطلق سراحه بعد شهرين، أخذوا به في البداية إلى منطقة داودية في دار الحاج عباس نجاتي. أنا ذهبت برفقة بناتي إلى هناك في اليوم الأول، وبعد ما اختلت الغرفة وبقينا نحن لوحدنا قلت له: هل يصعب عليك البقاء هناك؟! فمدّ يده على رقبته وأخرج قطعة صغيرة مفتولة من جلده. وما قلت آنذاك شيئاً إلاّ أني كنت مزعوجة جداً.

* لازلت تنزعجين عندما تذكرين بعض الذكريات. أعتذر يا أمي، إنّي أبكيتك لمرات في هذا اللقاء بسبب إحياء الذكريات المرّة. أعتذر حقاً.

ـ لا إشكال في ذلك. بعد ذلك اقترح السيد روغني أن يأتي السيد الإمام إلى بيته. وقد تموضع الكثير من رجال الأمن (الساواكيين) أمام دار السيد روغني، كما أنهم أجّروا بيتاً لنا يقرب من بيت السيد روغني. وكان قد تموضع 30 شخصاً تقريباً من رجال الأمن، كانوا يحدّون من التردد من وإلى البيت، وما كانوا يسمحون لشخص بالدخول إلاّ الوالدة والأخت. وقد قضينا مدة سبعة أشهر في القيطرية عند دار السيد روغني. وبعد ذلك قال لنا رئيس الساواك آنذاك الذي كان اسمه انصاري: أخبرونا متى ما أردتم الذهاب إلى قم، للمجيء بسيارة لكم. وذهبنا بعد ذاك إلى قم ووجدنا البيت قد ملأته الرجال، فأجّروا لنا بيتاً يتصل بجدار بيتنا وفتحوا باباً يتصل بالبيت. وقضينا فترة ثمانية أشهر في قم أي من العيد [النيروز] وحتى الثالث عشر من آبان حيث ألقى خطابه المعروف حول الحصانة القضائية للأمريكيين [كابيتولاسيون]. في الليل جاءوا خلف الباب وأنا كنت في الشرفة والإمام في جانب آخر، ورأيت أن واحداً بعد الآخر يتسلقون الجدران، فصرخت "سيد" ورأيتهم يركلون الباب الذي بيننا وبين الباب الخارجي. وعند سمع السيد صوتي صاح: "كسرتم الباب، إني قادم". ورأيت أن واحداً آخر من رجال الأمن قد تسلّق الجدران، فخفت، وكان ذاك في السحر. فخرج السيد من الغرفة وصرخ: "كسرتم الباب.. أخرجوا وأنا سآتي"، وعندما رأوا السيد خرج من الغرفة واتجه نحوي نزلوا من الجدران. جاء السيد وأعطاني ختمه ومفتاح صندوقه، وقال لي: "فلتكن هذه عندك حتى أخبرك"، وخرج من ذلك الباب فأخفيت ما أعطاني ولم أخبر بها أحداً. كان ذلك، لأنّ السيد توقع أن يأخذوا ختمه ومفتاح صندوقه. فزع آنذاك أحمد وكان 17 أو 18 سنة، سألني: أينَ أبي؟ قلت: "خرج من هذا الباب، أنت لا تذهب خلفه" لكنه ذهب. قال بعد ذلك: "لم أتحرك إلاّ أقداماً قليلة حتى رأيت بعدها أحد رجال الأمن موجهاً سلاحه نحو وجهي محذراً إياي من التقدم أكثر".

* لا تنزعجي يا أمي، وإذا كانت ذكريات تلك الأيام تزعجك إلى هذا الحد، فإني سأضطرّ لعدم السؤال. أرجو أن تكوني صبورة كما كنت إلى الآن. أذكر إذّاك عندما جئتك رأيتك ترجفين، وعندما سألتك عن صحتك أجبت بقوة؟ إني بصحة جيدة، لكني لا أعلم لِمَ أرجف. وأنا دائماً يتغير حالي عندما أذكر تلك اللحظة وأذكر مظلوميتكِ. حسناً يا أمي، لم تذكري لنا ما فعلت بالمفتاح والختم وكيف أرجعتيهما إلى الإمام في النهاية.

ـ كنت قد أخفيت المفتاح والختم إلى أن ذهب السيد إلى العراق؛ وبعدها أرسل لي رسالة من النجف طلب مني إرسالها بواسطة شخص أمين. طرحت الموضوع على السيد اشراقي، فقال لي: إنّي أطمئن إلى الشيخ عبد العلي القرهي وعنده جواز سفر؟ فكتبت رسالة أرفقت معها المفتاح والختم فدفعهما إليه في النجف.

* إن ايداع الإمام المفتاح والختم بيدك أنت دون شخص آخر رغم أنه بإمكانه أن يقول لك أودعيهما عند شخص آخر، يكشف عن ثقة الإمام بك ومستوى المقاومة وحفظ السر التي كنت تتمتعين بهما، أرجو أن تحكي لنا عن إقامته في تركيا.

ـ إنّ مدينة "بورسا" كانت محلّ إقامة السيد وكان يرافقه رجل من الأمن باسم حسن وهو من أهالي مدينة ساوه، وكان هو أيضاً من المبعدين لوحده دون عائلته، لذا كان غير مرتاح. وإلى جنب حسن كان شخص تركي باسم "علي بيك" كانا يراقبان السيد دائماً. وعندما أبعدوا أخوك مصطفى، كانا يذهبان سوية خارج البيت، وجلّ الوقت كان الإمام يصرفه في البيت لأجل كتابة رسالته العملية "تحرير الوسيلة".

* ماذا فعل نظام الشاه بالأخ؟

ـ بعد توقيف السيد، ذهب أخوك إلى بيت آية الله السيد المرعشي النجفي، والناس كانوا ملتفين حوله؛ وإثر اكتشاف النظام أن لأخيك دوراً مؤثراً، ألقاه في سجن قزل قلعة مدة شهرين ثم أبعده إلى تركيا.

* هل كنت راضية على ذهاب الأخ إلى تركيا؟

ـ كلا.

* أذكر أنه جاءكم الأخ عندما أراد الذهاب إلى تركيا، وأذكر أنّي أعنته على شدّ العمامة. وكنت مخالفة مع ذهابه، وتقولين له: "لقد مضى من السيد عمراً وهو يناضل الشاه، فهو مسنّ حالياً، أما أنت فشاب بذمتك زوجة وأطفال وزوجتك حامل حالياً، ما افعل بزوجتك. وبما أنّ الأخ كان مرغماً على الذهاب وما كان يريد إيذائك، قال: إن الجميع مجتمعون هنا، إلاّ الوالد فهو وحيد وفريد في تركيا، فعلي الذهاب قربه… وقد أخذوه في النهاية؛ وكان يوماً عصيباً ومرّاً هل تذكرين؟ [تؤيد زوجة الإمام ذلك بالبكاء]. أعتذر، إنَّ هذه الذكريات مؤلمة لنا جميعاً. الآن تكلّمي عن كيفية ذهاب الإمام إلى العراق، وعن الحوادث التي حصلت له في طريقه إلى العراق؛ ومن المحتمل أن الوالد أو الأخ تحدث عن ذلك. لأن هذا موضوع قلّما تطرّق له شخص. وأغلب السادة، التحق به في العراق فيفتقدون المعرفة بما جرى للإمام قبل ذلك.

ـ بعد اطلاق سراحه في تركيا خيّروه الرجوع إلى إيران أو الذهاب إلى العراق، إلاّ أنهم عملياً أرغموه على الذهاب إلى العراق. بعد دخوله العراق قررّ أن يذهب إلى كربلاء في البداية لأجل الزيارة، ثم يذهب إلى النجف. وخلال تواجده في الكاظمية ثلاثة أيام أو أربعة كان يذهب إلى سامراء. وفي هذه الأثناء كذلك دعاه أحد الأشخاص الذين كان لهم دار في كربلاء واعتاد الاصطياف في فصل الحرارة ليسكن بيته في هذه المدة، فذهب وسكن هناك مدة ثلاثة أيام، إلى أن أعدّ الحاج الشيخ نصر الله الخلخالي من أصدقاء السيد وصرّافي العراق بل من صرّافي نصف الممالك العربية، بيتاً له في كربلاء، كما أنه هيّأ للإمام بيتاً في النجف. وفي كربلاء أقام السيد مدة ثلاثة أيام في بيت الحاج الشيخ نصر الله. وقد قال الأخير للناس والطلاب: أعّدوا للإمام بيتاً ووسائل البيت لكي لا يقيم الإمام في غير بيته؛ والوسائل التي اشتروها واعدوها للبيت كانت سجادة وبسط مستعملة، ثلاثة أو أربعة من ملاحف النوم وسماور كبير، وكيس سكر، وصندوق من الشاي، وأربعين فنجاناً وصحون مختلف أنواعها لأجل الاستقبال، أربع صواني (أطباق) وكمية من الأواني الاخرى. وقد أطلع الرجال بأن يأتوا في الساحة التي مقاساتها 5X6متراً. وبعد ما وصل إلى منزله في النجف قادماً من كربلاء، أقام مدة 14 عاماً. والدار كان صغيراً جداً. ومساحة مطبخه كانت لا تسع فراش سرير واحد. كنا نضع قدر الطعام خارج المطبخ عندما نريد صبّ الطعام. كانت هناك غرفتان في الطابق التحتاني حجم كل منهما 3X4، كما كانت هناك غرفتان في الطابق الفوقاني، احدهما كانت غير مؤهلة للاستخدام، ففرشنا واحدة منهما للإمام. وآجرنا البيت المجاور لتخصيصه للاستقبال. والدار عموماً كان صغيراً وقديماً.

* أمي العزيزة! رغم أني أستنبط من الكلام أنك كنت تعانين من الاوضاع الاقتصادية في العيش مع الإمام، إلاّ أنك كنت تتحملين ذلك كله قناعة منك. ألا تتصورين أنك وكذا اطفالك متأثرون جميعاً بالإمام من الناحية العقائدية والأخلاقية؟

ـ نعم، إن معنويات الإمام وسلوكه وكلماته أثرت على الأطفال، وبخاصة في مجال الديانة، فإن أطفالي متدينون حقاً وأنا أشكر الله على ذلك، وهو يرجع إلى الإمام وآثار وجوده.

* هل تشعرين بهذا التأثير في ذاتكِ؟

ـ لقد تأثّرت بسلوكه وتقواه كما هو الحال بالنسبة للأطفال، إلاّ أن تأثيره على الأولاد من الناحية الأخلاقية مشهود في الأولاد.

* لو كان زوجك شخصاً غير مؤمن، فهل تعتقدين أنك لا تتغيرين من الناحية الخلقية وكذا الإيمان؟

ـ كنت أضعف في الديانة، كما أن الآن قويت فيها حقيقة.

* من وجهة نظر أخلاقية غير دينية، هل سمعت الإمام يوماً يحذرك أو يحذّر الأولاد بأن يصونوا لسانهم، أو يتقيدوا بسلوكهم؟

ـ كان يذكّرنا بالمواظبة على الأخلاق والسيرة الحسنة، فيدعونا لعدم التكبّر، ولا أحد من الأولاد وكذا نفسي كزوجة للإمام يتكبّر، ولا أتصور أنه خطر في ذهننا أنّنا من عائلة الإمام وأن ذلك دافعاً لنا نحو التكبر والعجب.

* ما يخطر ببالك من إرشادات أخلاقية وتربوية؟

ـ لا أذكر من ذلك شيئاً، فإنه قلّما ينصح، لكنه كان يؤكد على التربية الدينية عندما يبلغ الطفل السبع، ويطالبني بأن آمر الأطفال بالصلاة كي يعتادوا عليها في التسع؛ إلاّ أني كنت أقول له: ضع كل شأن من الشؤون التربوية بعهدتي إلاّ الصلاة، فإنهم لا يصغون إلي. كان يهتم بشأن الصلاة ويسألهم عن أدائهم للصلاة، ويصدّقهم إذا ادّعوا الأداء، ولا يلح بالسؤال منهم، ولا يتفحص في صدق كلامهم.

* تعتقدين أنّ أكبر دور للإمام في مجال تربية الأطفال والعائلة هو تقوية الاعتقادات المذهبية فيهم.

ـ نعم، أخذتم الأخلاق والإيمان منه؛ أما السلامة والتكيّف مع الحياة ومع الأزواج فأخذتموها مني.

* أماه! كيف تقضين أيامك بعد رحيل الإمام، وكيف هو سلوك الأولاد معكِ، وكذا معاملة المسؤولين؟

ـ إن معاملة المسؤولين جيدة جداً، وقد زارنا السيد الخامنئي عدة مرات وسأل عن أحوالي. وكذا الشيخ هاشمي الرفسنجاني زارنا عدة مرات، في الاعياد وفي أوقات أخرى. كما زارنا الشيخ كروبي. وزارنا السيد خوئينيها مرة.

* هل تترددون على عوائل المسؤولين؟

ـ نعم، إن عوائل المسؤولين يتعاطفون معي ويحبونني، وكذا الناس، ونحن يتردد بعضنا على الآخر في الأعياد والمناسبات المختلفة.

* كيف معاملة الأولاد لك؟ وما وصية الإمام في ذلك المجال؟

ـ إن الأولاد يحترمونني كثيراً، وقد كان الإمام أوصى السيد أحمد العزيز أن يواظب وأن يتلافى ما فاته، وتداركه بالنسبة للوالدة.

* كان الإمام يمتدح دائماً تحملك وصبرك وعفوك كما كان يوصي بك. ونحن شهدنا دورك في نضال الإمام، وشهدنا تعرجات حياتك المشتركة وهبوطها وصعودها، ومعاناتك الغربة في النجف والبُعد عن الأطفال و… رغم ذلك لم نشهد شكاوى أو مخالفة واعتراض على الإمام. وقد كان الإمام نفسه يكرّر حكايته لهذه النقطة. ما توقعاتك من الأولاد؟

ـ أتوقع منهم الاحترام ما دمت حية كما احترموني إلى الآن. وأنا راضية عن الجميع؛ عن أحمد العزيز وبناتي وزوجة ابني، الجميع جيدون جداً.

**************

رؤى الإمام الخميني (قده) وسلوكه الأسري

2007-09-05

كلما ازداد في الشخصية ظهورها العام وتألقها أمام الجمهور، كلما استبدَّ بالعقول النيرة والنفوس المستبصرة شوقها وفضولها لكي تنفذ من وراء هذا الألق بحثاً في الأعماق عما يتستر وراء المشهد ويخفى عن الأنظار.

ومع رجل كالإمام لامست مكونات شخصيته تلك السكينة والطمأنينة العلوية التي تنفح بها السماء على أولياء اللّه دون الناس جميعاً، يزداد التوق لاكتشاف بطائنها وما يضمره مشهد الظهور العظيم من اسرار ومفردات.

الشخصية الكبيرة والصغيرة تمارس كلاهما حضورهما الطبيعي البعيد عن التكلف في دائرة الحياة الشخصية وذاتياتها؛  مع فارق انَّ الأولى تبرهن بالتزامها على سموّها وعلو همتها وما تنطوي عليه من انسجام بين الظهور العام والسلوك الشخصي، في حين انَّ الثانية تعطي الأدلة على دنوها ووضاعتها من خلال حجم المفارقة بين “تكلفها” في الظهور العام، وانحدارها في السلوك الخاص.

وفي السلوك الخاص تتفوق بعض الشهادات على غيرها بما لا يضارعها أية شهادة. وهذه الأسطر التي بين أيدينا تنطوي على اضمامات ـ لا أكثر ـ تحكي لمحات من معالم الوجه الآخر في حياة الإمام، وتثبت كم هي منسجمة سيرة حياة هذا الرجل بين الدائرتين الخاصة والعامة.

* السيدة فاطمة طباطبائي نرجو أن تحدثينا عن تأريخ ارتباطك بعائلة الإمام

لقد ارتبطت بعائلة الإمام في عام 1970، بيدَ ان عائلتنا كانت على معرفة كاملة بعائلة الإمام قبل هذا التأريخ؛ فقد كان والدي وسماحة الإمام الراحل كلاهما مدرسين في الحوزة العلمية بمدينة قم، بالاضافة إلى ان كريمة الإمام الكبرى هي حرم حجة الإسلام اشراقي، والأخير قريب لوالدتي، وهذا سبب آخر لعلاقتنا مع هذه العائلة.

* وما هي الوصايا والتوجيهات التي تركت أثرها عليك في أول لقاء لك مع الإمام الراحل

لقد تزوجت من السيد أحمد الخميني في عام 1970، وفي 1973 سافرتُ وزوجي وطفلي البالغ تسعة شهور، إلى العراق، حيث وصلنا منزل الإمام مُنتصف الليل، وقد فتح لنا الباب سماحة الإمام بنفسه، فجلس معنا دقائق ثم نهض وانهمك بأداء صلاة الليل. أثار هذا الموقف استغرابي، فصلاة الليل ليست واجبة، وقد كان بامكانه تأجيلها، خاصة والإمام يحب السيّد أحمد كثيراً، ولم يكن قد رآه منذ عدّة سنوات!

تأكدَّ لي بعد ذلك أنَّ هذا الموقف للإمام نابع من شدّة حبّه للّه وحرصه على أداء صلاة الليل.

أمّا الخصيصة الاُخرى التي كان يمتاز بها الإمام، والتي اكتشفتها فيه سريعاً، فهي ثباته وصلابته، والنظام الخاص الذي امتاز به سماحته. فبعد مرور عدّة أيام على مكوثي في النجف الأشرف، احطت علماً بطبيعة برامجه في كل ساعة من اليوم، حتى بت أعرف الساعة من خلال ملاحظة الإمام، بسبب انتظام برامجه ودقّتها.

وسألت حرم الإمام مرّة عن برامج الإمام، فأجابت: إذا اخبرتك ببرنامجه خلال اليوم الواحد، فبامكانك اعتباره برنامجه على مدار السنة، فهو على غاية كبيرة من النظم والدقة، وكان يوصي بالنظم والتخطيط دائماً.

كنت أجهل في البداية الكثير من الاُمور، ولكني بعد التدقيق بأعمال الإمام وسلوكه؛ وبعد توجيه الأسئلة إليه، تأكّد لي انه يلتزم كثيراً من المستحبات الشرعية ويبتعد عن المكروهات، وكان ينهانا عن المكروهات أيضاً، فمثلاً حين كنّا نضحك بصوت عال كان ينهانا عن ذلك، لأن الضحك بصوت عال مكروه شرعاً.

* كيف كان يتعامل سماحة الإمام مع موضوع اختيار الزوجة لابنائه أو الزوج لبناته، وهل كانت لديه وصايا خاصة في هذا المضمار

لقد كان سماحته يدرس وضع العوائل التي كانت تتقدم للزواج من كريماته بحثاً عن أوجه مُشتركة بين الجانبين. وبعد ان يطمئن إلى عائلة المتقدم ويقتنع بها، يتحدّث بنفسه مع الخاطب ليرَ هل انه كفوء لكريمته أم لا، ويدرس الطرفين وهل بامكانهما فهم بعضهما البعض. بعد دراسة الموضوع بتأمل يستخير اللّه (عزّ وجلّ)، أي يطلب الخير من اللّه.

وأتذكر مرة انني سألت حرم الإمام فيما إذا كان سماحته يستخير اللّه بشأن المتقدمين للزواج من كريماته أم لا؟ فأجابت: لم تكن للإمام قناعة بالاستخارة بمعناها السائد، كأن يستخير ـ الإنسان ـ فإذا جاءت النتيجة سلبية يرفض، وإذا كانت ايجابية يقبل. كلا لم يكن يعمل بالاستخارة بهذا المعنى.

مازلت أتذكر جيداً عندما أراد تزويج أحد كريماته كيف استقبل القبلة وصلى ركعتين، ثم توجه إلى اللّه (عزّ وجلّ) يلتمس إليه ان يجعل الخير في هذا الزواج. ولو دققنا في الموضوع لرأينا انّ هذا هو معنى الاستخارة.

أي انّ على الإنسان بذل ما في وسعه والبحث في الاُمور ودراستها ما أمكن، حتى إذا ما توصل إلى قناعة ذاتية يتوجه إلى اللّه (جلّ شأنه) لطلب الخير والمعونة.

* ما هو الدور الذي كان الإمام يمنحه لكريماته بشأن اختيار الزوج

كان يطرح الموضوع عليهن، والشيء الطبيعي انّ العائلتين كانتا على معرفة ببعضهما؛ أي ان كريمة الإمام هي على معرفة كاملة بعائلة المتقدم للزواج مِنها، وكان الإمام يطرح الموضوع على كريمته، وينقل لها تصوره عن الخطيب ونقاط ضعفه وقوته، بيدَ انه كان يترك الخيار النهائي للبنت، وإلاّ في غير هذه الحالة يكون عقد الزواج باطلاً أساساً.

* هل كان لسماحته (رضوان اللّه عليه) وصايا خاصة وموازين معينة حول الزواج

لقد كان ميزانه تقوى الشخص دائماً، لأنه يعتقد بأن التقوى هي العامل الرئيس؛ فحتى لو وضعنا البعد المعنوي جانباً، فانّ الإنسان المؤمن لن يتسبب بمشكلة في القضايا الدنيوية؛ فالمسلم المتقي لا يُلحق الأذى والظلم بالآخرين، وبزوجته أيضاً، والمؤمن لن يضيع حق أحد، وكان الإمام يقول دائماً انّ من يسير على منوال ضوابط معينة لا يقوم بأي تصرف غير صادق، وبالنتيجة لن يلحق الأذى بزوجته واطفاله.

أما الوصية الاُخرى التي كان يؤكد عليها، فهي موضوع الكفاءة، بأن يكون الزوجان مناسبين لبعضهما البعض. والشيء الطبيعي أنّ العائلة العلمائية تتسق أكثر مع العائلة الاُخرى المماثلة لها.

بناءاً على ما مرّ كان الإمام يؤكد على وصيتين مهمتين بشأن الزواج، الاُولى: التقوى، والثانية: كون الشخص كفوءاً مناسباً. بالإضافة إلى الأهمية التي كان يوليها للعائلة واُصولها؛ إذ كان يعتقد انّ الأب والجدّ إذا كانا صالحين، فان نطفتهما تكون طاهرة أيضاً.

بعد هذه الاُمور كان يهتم بالقضايا الاُخرى، من دون أن يعير أهمية للجوانب المادية، أو أن يعتبرها معياراً للسعادة والشقاء.

* ما هي نظرة الإمام إلى آداب الزواج والقضايا المتعلقة به كالمهر مثلاً

كان الإمام دقيقاً بشأن المهر، أي انه كان يعتقد بضرورة المهر، فعندما كان الزوجان يحضران لاجراء العقد عند سماحته، ويحددان المهر، كأن يكون نسخة من القرآن الكريم فقط، كان يطلب مِنهما تحديد مبلغ من المال كمهر بالإضافة إلى القرآن الكريم.

* ماذا كان رأيه حول مقدار المهر

هذه مسألة ترتبط بوضع الأفراد، وكان الإمام يُرجع ذلك إلى العرف السائد؛ فهذا موضوع عرفي بالدرجة الاُولى، فقد يختلف ميزان المهر من عائلة إلى اُخرى، وكان الإمام يعتقد بضرورة الاهتمام بالموازين التي تعتمدها البنت وعائلتها، بيد أنه لم يكن يميل إلى مراسم الزواج الاُخرى، فعندما تزوج حفيده من شقيقتي نهى عن اقامة المراسم، سيما إذا علمنا ان الزواج جرى خلال سني الحرب، حيث نهى سماحته عن الاحتفال، فاقتصرت مراسم الزواج على مستوى الحد المتوسط. أقول بشكل عام، إنّ الإمام كان يرى ضرورة رعاية العرف السائد والعمل وفقاً له.

* ما هي الاُمور التي كان يعتبرها الإمام جزءاً من واجبات حرمه أو كريماته، وهل كان يبدي انزعاجه لعدم التزامهن بها

لقد كان احترامه لحرمه كبيراً جداً، وقد كان هذا الاهتمام مشهوداً حتى آخر لحظات عمره، فكان يوصي الجميع بذلك، حتى أولاده؛ أي يوصيهم باحترام زوجاتهم.

كما تعلمون لا يوجب الإسلام شيئاً من الأعمال المنزلية على المرأة، من قبيل طهي الطعام مثلاً، والإمام كان يولي موضوع الألفة والتفاهم أهمية خاصة، لذا لم يكن سماحته يصدر أمراً لحرمه بشأن هذه الاُمور، فعندما كان يريد مثلاً خياطة أحد ازرار ملابسه، كان يقول للسيدة حرمه: هل يمكن أن تعطيه للآخرين لخياطته، ولم يكن يأمرها ان تخيط ذلك بنفسها. وإذا رأى ان زرّ القميص لم يُخاط فلم يكن يقول ـ معترضاً ـ: لماذا لم تخيطيه؟ بل كان يقول: الم يكن هناك أحد لخياطته.

لم يقل لحرمه حتى آخر لحظة من حياته ناوليني كأساً من الماء، وفي المقابل كان يقوم بذلك تجاه حرمه، أي كان يأتي لها بالماء، ويذكرها بتناول أقراص الدواء.

هذا من ناحية سلوك الإمام. وقد كان يتقيّد في بعض المجالات، فبشأن العلاقات مع بقية العوائل، كان يحرص على أن تستشيره حرمه بخصوص اقامة العلاقات الجديدة مع العوائل، وكان يطلب ان تبلغه بالمكان الذي تريد حرمه التوجه إليه، للتأكد من العائلة التي يُراد بناء علاقة عائلية معها.

لقد كان الإمام يضع هذه القيود خارج المنزل، وكان قد طلب من السيدة حرمه، ان يكون الميزان هو عدم اقتراف ما يشكّل مخالفة شرعية، مع التأكيد على الالتزام بالواجبات.

انَّ المراقب لأعمال الإمام وتصرفاته يشعر بأنّ ظاهره وباطنه واحد لا يتغيّر؛ فإذا أراد مثلاً ان ينهانا عن الكذب، فقد كان يتصرف بشكل يبين لنا فيه أنَّ الكذب عمل مذموم وصفة الجبناء والوضيعين.

* ما هو رأي الإمام الراحل بشأن دراسة المرأة، وهل كانت له وصايا خاصة في هذا المجال

لم يكن سماحة الإمام يتدخل بالشؤون الخاصة لافراد العائلة، وخاصة بالنسبة للمتزوجين من أبنائه الذكور، إلاّ أنه كان يدلي بتوجيهاته لأبنائه الذكور أكثر من الإناث، ولم يكن يتدخل ـ مثلاً ـ حتى في تسمية أحفاده، بيدَ انه كان يدلي بوجهات نظره في هذه الاُمور فيما لو سئل عنها.

لذلك لم يكن يتدخل في تحديد الفرع الدراسي لكريماته، ولكنه كان يوصي بشكل عام بضرورة مواصلة تحصيل العلم. وكان يوصي أحفاده دائماً بمواصلة دراساتهم العليا ويشجعهم على ذلك. لقد ذكرت حرم الإمام انها طلبت من سماحته عندما قدموا مدينة قم، ان يدرّسها لأنها لم تكن قد أكملت سوى المرحلة المتوسطة، فاستجاب لذلك، وكان يعطيها جزءاً من وقته لتحقيق هذا الهدف، وكان يشجعها على المطالعة، بيدَ أنه كان يؤكد لها ضرورة ان لا يتحوّل العلم إلى حجاب.

* ما هو موقف الإمام بشأن عمل المرأة

لم يكن يعترض على ذلك بشرط أن لا يكون للعمل تبعات سلبية على الوضع العائلي، لأنّ المرأة هي التي تربّي المجتمع، والعائلة هي نواة المجتمع. لقد كان الإمام يرى ان دور المرأة مهم جداً في بناء العائلة وتماسكها، كما كان يعتقد ان بمقدور المرأة إصلاح الرجل السيء، فإذا كان المحيط العائلي سليماً فلن تحدث مشكلة ولن يحدث خلاف، مما يترك آثاراً ايجابية على الأطفال الذين سينشأون بشكل سليم، ومن ثم سينعكس ذلك على المجتمع ايجابياً.

كان الإمام لا يمانع من عمل المرأة خارج المنزل بشرط أن لا يسيء ذلك إلى العائلة، نظراً لدور المرأة المصيري وأهميته في تربية الاطفال.

كنا أحياناً نمزح معه، ونحن نقول: ان على المرأة أن تبقى في منزلها! فكان يجيب: لا تستهينوا بدوركم في المنزل؛ فانَّ تربية الاطفال ليست بالشيء الهيّن، فلو تمكن إنسان ما من تربية واعداد شخص واحد تربية صحيحة، فسيكون بذلك قد أدّى خدمة جليلة للمجتمع. الأكثر من ذلك، كان الإمام يعتقد بأنَّ الرجل غير قادر على تربية الأبناء، وان ذلك يعتمد بشكل أساس على المراة، لأنّ مساحة العاطفة في المرأة أكبر، والحب والعاطفة يجب أن يكونا عماداً للعائلة.

* ما هو رأي الإمام الراحل من النشاطات التي تقوم بها السيدات من عائلته في المجالين السياسي والاجتماعي

لم يكن الإمام يمنعنا من ذلك، إلاّ أنه كان يحرص على ان لا نُستَغَل بسبب ارتباطنا به، أي انه كان يحظر علينا التصدّي للمناصب الحساسة. فكان لا يرغب ـ مثلاً ـ أن تكون كريمته نائبة في مجلس الشورى، حيث كان يقول: لا اُحب أن يقال ان فلانة تسلمت المنصب الفلاني لارتباطها بالإمام وصلتها به. وكان يقول أيضاً: لم نقم بالثورة لكي نتقاسم المواقع، ولكي لا تحدث شبهة في هذا المضمار اُريد منكم أن لا تتسلموا مناصب كهذه، وهناك مجالات اُخرى يمكنكن العمل من خلالها.

لذلك انطلقت نشاطاتنا في مجالات اُخرى، على سبيل المثال عندما كان سماحته في مدينة قم المقدسة، وأصدر توجيهاته بتشكيل مؤسسة محو الامية، التزمت بأحد الفصول الدراسية، وقد سجلت الكثير من الأخوات الاميات أسماءهن في هذا الفصل، ورغم انَّ الإمام كان يعاني في حينها من مرض القلب، إلاّ انه كان يشعر بالغبطة والسرور عندما كنت اُحدثه عن نشاطاتي في هذا المجال، مما كان يشجعني للتحدث عن ذلك له.

لقد كان يعلم بأن لدي طفل صغير واني اُواصل العمل خارج المنزل، إلاّ انه لم يكن يمنعني عن ذلك. وكذا الحال بالنسبة لكريمته حيث كان يعلم انها تقوم بنشاطات واسعة على صعيد حركة المرأة المسلمة. لقد كان يقول: واصلوا نشاطاتكم، إلاّ ان عليكم رعاية الحدود الشرعية، ومِنها كسب موافقة أزواجكن.

* ما هو رأي الإمام بشأن موضوع حجاب المرأة

كان الإمام الراحل يعتقد بأن ملابس المرأة وظاهرها لا يجب أن يقود إلى الافساد؛ أي يجب عليها ان لا تظهر مفاتنها الجسدية، ولكن لا مانع من ظهور قرص الوجه، بدون زينة.

أمّا بشأن عمل المرأة خارج المنزل، فكان يرى بأنّ عليها ان لا تتحدّث إلى الرجل ما دام لم تستدع الضرورة ذلك. فعندما كان أحد أحفاده يصل مرحلة البلوغ، لم يكن يجلس معنا في غرفة واحدة، لأنّ الإمام لم يكن يرى ذلك ضرورياً، ولكنه لم يكن يعترض على الضروريات، فقد أخبرته مرة أني تحدثت مع الاُستاذ في الجامعة حول أحد المواضيع الدراسية بباعث الضرورة العلمية.

* ما هو رأي الإمام بالنسبة لتعدّد الزوجات

لقد كان سماحته يعتبر رعاية العدالة شرطاً مهماً في ذلك، وكان يستبعد ان يتمكن الرجل من رعاية العدالة، أمّا إذا تمكّن فلا مانع من تعدّد الزوجات. ولكن تعرفون ان سماحته وكل أبنائه وأحفاده لم يتزوجوا غير زوجة واحدة، وكان يتصرف بما يوحي انه لا يحبّذ تعدّد الزوجات، أي انه كان يرى هذا الموضوع غير مناسب.

والشيء الطبيعي ان تؤخذ أوضاع المجتمع بنظر الاعتبار؛ إذ من المحتمل ان تستدعي الضرورة العمل بمبدأ التعددية. ولكن من الذي بمقدوره رعاية العدالة مع زوجاته.

* هل كانت للإمام الراحل وصايا خاصة قبل رحيله

في اليوم الذي سبق انتقاله إلى المستشفى وجه إلينا بعض النصح بشأن موضوع الغيبة. فهو لم ينهِ عن الغيبة لأن ذلك أمر مفروغ منه، ولكنه كان يقول: حاولوا الابتعاد عن المجالس التي تذكر فيها الغيبة. لقد كان يؤكد كثيراً على الابتعاد عن الغيبة وعن السخرية بالآخرين.

أمّا الموضوع الآخر الذي كان كثيراً ما يؤكد عليه الإمام، فهو اداء الصلاة في أوقاتها، وكان يستشهد برواية عن الإمام الصادق (ع) تؤكد ان المستخف بالصلاة لن ينال شفاعة آل الرسول. قلت له مرّة، ربما كان مراد الإمام الصادق (ع) في حديث الاستخفاف، هو من يؤدي الصلاة مرة ويتركها في مرة اُخرى، بيد أنه أجاب: كلا، ان ذلك سيكون خلافاً للشريعة، فقد كان الإمام الصادق يرى ان عدم الاكتراث بأداء الصلاة في أوقاتها، يعني ان الشخص يرجح عليها قضايا اُخرى.

* لو تُحدثينا ـ في نهاية المطاف ـ عن بعض توجيهات الإمام الراحل؟

كانت توجيهاته تؤكد على الالتزام بالأخلاق والآداب في المنزل. أما بشأن التعبد والطاعة فهو بحث خاص يحتاج للتفصيل، فلو تفحصنا فتاوى الإمام لرأينا أنه كان يعطي لكل منها بعده المعنوي. وهذا لا يعني ترك ظاهر الأمر والتمسك ببعده المعنوي أو بالعكس؛ فقد كان الإمام يهتم بالجانبين معاً، أي انه كان يقول بأنّ الظواهر الشرعية لها ابعاد معنوية يجب العناية بها.

وحول العبادة يذكر الإمام في أحد كتبه، ان العبادة باب فتحه اللّه لرحمته، فليس بامكاننا ـ مثلاً ـ أداء شكر النعمة التي أنعمها اللّه علينا بتعليمنا الصلاة، وسماحه لنا (سبحانه) بأدائها. كان ينظر إلى مفهوم الصلاة بمثل هذا المنظار.

أي انَّ الصلاة والعبادة هي أبواب فتحها اللّه لرحمته، وبمقدور الإنسان التقرب إلى اللّه من خلال الصلاة. وقد كان الإمام يؤكد انه ليس بمقدورنا أن نعرب عن شكرنا للباري على نعمة الصلاة التي منحنا اللّه ايّاها، ليكون بمقدورنا الارتباط به (عزّ وجلّ) من خلال الصلاة. كان يوصي دائماً بقراءة الأدعية كالمناجاة الشعبانية، وكان يؤكد انه لم يكن بامكان أي منّا أن يدعوا بمثل هذه الأدعية التي كان يدعوا الأئمة بها، لولا ان لطف اللّه هو الذي هدانا إليها لنتكامل من خلالها ونسمو.

وبشأن شهر رمضان كان يؤكد انه شهر ضيافة اللّه، وهو رحمة منه (سبحانه) لمخلوق ضعيف كي يتمكّن من الارتفاع والسمو.

تكتسب العبادات والواجبات الشرعية مفهوماً خاصاً عندما ننظر إليها بمثل هذا المنظار.

شخصياً أوصاني الإمام في الأيام الأخيرة بقراءة دعاء العهد صباح كل يوم، ومن الأدعية التي كان يواظب عليها سماحته دعاء كميل بن زياد المروي عن الإمام علي (ع)، والمناجاة الشعبانية.

وبشكل عام كان الموضوع الذي يؤكده دائماً وينصح به أفراد اُسرته هو الالتزام بالواجبات والانتهاء عن المحرمات، والعمل بذلك يستلزم أولاً معرفة الواجبات للعمل بها، ومعرفة المحرمات لاجتنابها، وكان يؤكد ان العمل بالمستحبات له دور خاص في بناء الشخصية الإسلامية.

كما كان يوصي كثيراً بتلاوة القرآن الكريم.