واحترق الهشيم

الأديب سليمان كتاني

واحترق الهشيم! انه عنوان الكتاب في تعبير جليٍّ عن هشيمٍ يابسٍ شائكٍ قاحل، تطوَّقت به إيران: امةً وشعباً وإنساناً، عبر دهرٍ طويلٍ وذليل الحقب، مما جعلها واقفةً كأنها النكرة المحنَّطة، علی مفرقٍ خطيرٍ يُودي بها بعد خطوةٍ أو خطوتين، إلى هاويةٍ حقيرةٍ لا يعرف إلا القدرُ عمقَها في الهوان!

إنما هو الله الكريم الشأن - وهو الذي يمهل من دون أن يهمل، وهو خالقُ الكون وزارعُ الحجی في جبلة الإنسان، وهو غارسُ الصفات النجيَّة في طوايا النفس، ومنيرُ السجايا الخفيَّة بابهاء المكرمات لم يرد أن تعمی عينٌ إذا حُجبت عنها أَنوار الصباح، ولا أَن يُشلَّ الخيرُ في عمل المعروف كلما هدَّدَهُ الشرُّ في زوغة المنكر!!!

إن الإمام هو الذي اشتغلت فيه منازع النفس، ومحازم الروح، ودفقات النُهی، وآلُّها هباتٌ من فيضٍ الهيٍّ بقي هاجهاً في إيران إلى أن استيقظه فيها من يقودها الآن بوميض شراراته التي ستحرق هذا الهشيم المتجمِّعَ عليها من زوايا الهمجيَّات وخبايا القرون:

أظنُّ الوقت يشتاق الآن للكشف عن حقيقة هذا الهشيم الذي نعرف تماماً انه قد احترق، بدليل أن إيران قد تحررت منه وأصبحت جمهوريةً جديدةً إسلاميةً في انبعاثها من تحت الأنقاض، وتمتُّعِها بحياةٍ كريمةٍ تشهد لها بأنها حريَّةٌ بالكرامة، والعزَّة، والبقاء، وإنها جديرة بإنشاء حضارةٍ، تُجلسُها حيثُ يجلسُ الأقوياء والأكفياء.

إن الهشيم الذي عناه عنوان الكتاب هو العرش الكذَّاب في إيران، وبدلاً من أن يخدمها كوطن مقدس، ويبنيها إلى عظمة، خدم ذاته استئثاراً بكل خيراتها، وذلَّلَها وحقَّرَها مستقوياً عليها بأطماع المستعمرين المفلطحي الاقدام من روس، وانكليزٍ، وأمريكان!!!

أربعة اذاً تكاتفوا علی مص ومحق إيران!!! انهم أَماَمَنا: الخائفون الواقفون في الصف، يفحُّون فحيح الأفاعي، ولا يندی لهم جبينٌ، ولا ضميرٌ، ولا قبسٌ من نبلٍ تستقيم به قيمة الإنسان... أَليس المستهينُ بكرامة الإنسان، وفضيلة العرفان، هو الكافر، الجاحد، المستهين بقيمة الله المنظم الأكوان، والموزِّع الخير، والحق، والمعروف، صنوفاً كريمة لا تستقيم إلا بها مجتمعات الإنسان؟!!

هذا ما اعتبرته هشيماً يقظة الإمام وفطنة العنوان، ولا بدَّ من ثورةٍ تحرقه بأجمعه لأنه ابداً في حقيقة التلازم والترابط. وإلا فان الثورةَ فاشلةٌ بقطعها ذَنبَ الأفعی، من دون أن تسحق كلَّ رؤوسها من دوحات المكان.

الافعی وليست - بالحقيقة إلا مثنَّاةٌ بعرشٍ واستعمار! فليحرق الهشيمان: العرش والاستعمار... وانهما- بالنتيجة جسمٌ واحد في المبدأ والغاية ، اسمه الهشيم.

فليحر ق الهشيم! اما الحارق فهو الشرارة المستمرُّ بها دفعُ الوميض.

واختطَّ الإمام ثورته باسم الله أي باسم الحق، وعزة النفس، وكرامة الروح، وحقيقة الإيمان... وخَصَّها بنهجٍ مفرد، قوامه: رفضُ الحكم القائم في إيران باسم العرش، رفضاً باتّاً وشاملاً وبشكل مطلق، من دون أي قبولٍ بتعديله، أو تطويره، أو تلقيحه بدستورٍ وطنيٍّ حتى ولو تجلَّت في بنوده إرادةٌ شعبيةٌ واضحة المعالم، والتصوُّر، والأداء... لأنَّ اسمَ العرش بالذات يبقى لوثةً حاملةً جرثومةً قد يكون لها – في السر – تحنيط الوباء!!!

إذا كان لنا شوقٌ إلى تلمس هذا النهج في تخطيط الإمام فما علينا غير أن نصغي إلى بعضٍ مما ورد في هذا الكتاب من نبذاتٍ منثورةٍ، فكلُّ واحدة منها توضح رأيه وصوابية حكمه علی عرشٍ نشر ظلاً كسيفاً علی إيران هَجَّعَها في غفلات الزمان!

فلنصغِ إلى قراره، في الفصل الأول، يصدرُ منه حكمُ الإعدام علی العرش عبر تقييمه للعهد الصفوي الذي أعاد إلى إيران بعضاً من عزها المهدور، سنراه كيف عنَّف المؤسس الممتاز إسماعيل الأول الذي بنی دولةً علی اسم الإمام عليّ، ذلك العفيف الأول، يجوع عن رغيفٍ في معجنه، ليكسره علی فقيرٍ من الرعية، يقيت به أطفاله المتضورين!! وينام علی نصف حصير عتيق ومخرَّق، ولا يشتري خيطاً من غزلٍ يرتقه به، مقتِّراً علی نفسه بثمن الخيط، ليشتري به للعريان مغزلاً يغزل به قيمصه!!!

لقد قال الإمام لإسماعيل الأول: لو انك فعلاً تحب الإمام العلي، لكنت نهجت في الدنيا نهجه، ولما كنت عبدت العرش والتاج، الا لتجعلهما عبدين ساجدين في محراب إيران، ترفعها إلى مجدٍ عفةُ علي في حقيقة الميزان...

أَلا بِعْهُ هذا العرشَ، بكل ما لك فيه من سؤددٍ، وبكل ما لك فيه من عنفوان، واصرفه عمراناً، وعد لاً، وازدهاراً في بساتين ايران!!!

وقال الإمام لعباس الأكبر: وأَنت يا كبيراً بعد إسماعيل، ويا صفويّاً في روعة الإسلام هل لك أن تبني اصفهان جنةً من الجنان: تعبق بالزهر، وتعمر بالقصور المرصَّعة باللؤلؤ، والدرّ، والمرجان... ليس إلاّ لأَنَّ في قصورها تنعمُ غفواتك في بهجات لياليك، ولأَنَّ في أنفاس رياحينها تتطيَّبُ اشواقُكَ ومغانيك!!! ألا بئس عرشٌ أنت تعشقه يا عباس، لا يجعل كلَّ مدينةٍ وكلَّ دسكرةٍ في إيران مشابهةً لاصفهانك!!! لكنت حقاً لو فعلت - تكبر بعشق الأوطان... ولكنك الآن – فقط – شاهٌ، وأنا لا أحب الشاهانيين، ولا التيجان، ولا أَيةَ بؤرةٍ موبوءَةٍ بالطغيان!!!

لو أننا أصغينا ملّياً للإمام كيف كان يقيِّم الاسماعيل الأول، والعبّاس الأكبر الصفويين، أما كنا لمحنا كيف كان يشمئز من كرسيٍّ يدعَرُ بمن يجلس فيه ولا يستفيق ابداً إلى مصلحة وطنٍ هو الأولی والأجدى بنبذ الأرذلين!!!

كل عرش في حس الإمام هو الهشيم، إذا كان لنا بالله أن نستعيذ... لقد خصَّ الإمام الأَولياء الأَصفياء بسياسة الناس الكادحين، يكفكفونهم بالعدل الأصيل، والخلق النبيل، فهم عيال الله في شؤون الأرض، وفروع الحياة الكريمة في شوقها النامي، من هنا تمنّي - إذا كنا نذكر علی أستاذه الإمام البروجردي: أَن ينشَطَ لتحمل أعباء السياسة الرشيدة، فلا يتركها طوعاً أو خوفا لعنجهيات العرش يذلل بها عباد الله، ويحطمهم بالحرمان... مع العلم أن الإمام كان يدرك أن كل سياسة – ولو راشدة – لا تفعل، وهي في ظلِّ سياسة أخرى لها كلُّ الفرص في أن تملأ كل أشرطة المكان؛ وكان سناده في عرض التمني ما هو مخبوءٌ في عزمه الجبار: بأن الآتي قريب بإذن الله، ولابدَّ من أن يحترق الهشيم.

وبشكلٍ آخر، ساق الإمام تمنِّيَهُ علی الإمام الكاشاني  ناقداً ومندِّداً بأنه يكون مغروراً جداً بإجهاد نفسه للوصول إلى رئاسة مجلسٍ برلمانيٍّ هو ظلُّ لعرشٍ وشاه!!! وهما أثناهما: صِلٌّ وسنجاب واحد ينهش الضرع، وآخر يقضم الفرع!!! وتمنی في قرارة وجده – علی الكاشاني: إن لا يهيم بمجد الخفايش، ولا بد من أن الليل سيستنير باحتراق الهشيم!

وكذلك، ومن ذات النغم، تطفّل بنصيحةٍ – علی الدكتور مصدق الذي لم يفقهْ كثيراً مغزاها، ومع ذلك فانه شدَّها إلى أذنه بهذا المعنی: أنت زعيم الوطنيين الأحرار يا مصدَّق في إيران، ولكنك لم تدرك بعدُ أَنَّ الوطنية ليست بوترٍ واحد، بل إنها مثل الكمنجة، لا تقوِّمُ دورَها إلا بعدة أوتار... نحن كلُّنَا مجموعةُ الأوتار في إيران، يُقَطِّعُها الشاهُ بشفرتين: شفرة جهله قراءة الحق، وشفرة استنجاده بوحش الاستعمار... فلنلملم الأمة كلَّها إلى صدرها العريض، وغداً نری كيف يكون تنغيمُ الكمنجة، وكيف يكونُ احتراقُ الهشيم!

وأخيراً وبعد أن توصَّلَ الإمام إلى نشر ذاته، ومقاصده، وطموحاته علی كل إيران التي استوعبته بكل ما فيها من طاقاتٍ فكرية، وروحيةٍ، وشعبيَّة تلقَّطَ بالساحة العريضة والمفتوحة علی رياحها الأربعة وقال لها: لا تنامي بعد الآن في الخباء، بل في كل فسحات العراء - فالشموسُ كلُّها لدحر عتمات الليل من أَرجاء الفضاء!!!

وانطلقت الثورة المؤمنة بسخاء البذل المحقِّق روعة النصر، وأَرَّخَتْ يومَها الأَولَ والأشهبَ بصبح يوم نفي الإمام إلى تركيا، أما الأيام السابقة من عمر الإمام، فكانت زحفاً من قرعات الثواني المستديمة في تجاهدها لتلوين المسافة المتسعة بها عين الزمان، وإنما الثواني النشيطة، فهي التي تغتزل بها حدقة الدهر في تكحُّلِها بالأبهی والابقی في صدر الحياة!

ذلك كان شأن الإمام سحابةً اثنتين وستين من عمره: يجبي الزمان من قرعات ثوانيه الملتهبة بالفهم، والوعي، والانفة المطلة علی أُفق فسيح المساحات، حتى إذا ما تجمعت لديه الثواني القارعة ، دقَّت بها ساعةُ الثورةِ تاريخَ ولادتها، وانطلقت إلى لهبٍ تحرق به ذياك الهشيم!

وأَدرك الإمام أن يوم إِبعاده من إيران، هو يوم ولادته الجديدة مع الساعة الأولى التي تجسَّدت فيها الثورة، شادَّةً حقويها بكل ما يمتِّنُها ويدفعُها إلى ساحات الجهاد!!!

لو لم يرهب الشاهُ البهلوي وجودَ محرك الثورة في إيران، لما أَبعده عن إيران التي أَصبحت مجذَّرة الارتباط بالإمام... وها هو التغييبُ بالذات يضاعف الولوعَ به، ويضاعف عزم الثورة بكل شدَّات الحزام!!!

ولكنَّ الشاهَ كان من صنف الأقوياء الدُعَّار والغُرّار، ولا من صنف الأذكياء الأحرار والطُهّار... وهكذا في تصرفه ولو ساندته انشوطة الاستعمار سلَّح الامامَ الذكيَّ بقوةٍ لا تقهر، وهي قوة قرعات الثواني، في تأليفها ساعةَ النصر التي سجَّلها الزمان في لوحة التاريخ – ومن هنا كان ابتهاجُ الإمام بيوم نفيه، تأريخياً لانتصار ثورةٍ أطعَمَها جهد عمره لجعلها حمراءَ مزهوّة، في بناء مجد إيران وهي تحرق الهشيم.

ومن تركيا التي لبث فيها خمسة أشهر، ومن العراق التي احتجزته ثلاث عشرة سنة ، ومن فرنسا التي استضافته ثلاثة أشهر... كان الإمام يقدِّمُ للثورة لهيبَها المتجدَّد، وما كانت هي الا لتصغي إليه بكل انباضها المشغوفة به، حتى إذا ما أَطلَّ اليوم الأول من شباط سنة ١٩٧٩، تجمَّع أكثر من سبعة ملايين من الإيرانيين لاستقبال القائد العائد من منفاه، للانصهار التام في ارض الأمة، وها هو بجبينه المجعَّد، وصدره العريض كنهر كارون، يعلن في بهشت زهرا – نهاية النظام الشاهنشاهي، وتكليف المهندس بازرجان بتشكيل الحكومة الطالعة من تحت الرماد.

منذ أكثر من شهرين تمَّ هروب الشاه!!!

ومنذ يومين من هلال شباط رحل من إيران الجنرال الأميركي...

!!!« هايزر»

ومنذ يومين أيضاً قُطِعَ النفط عن الغرب!!!

وتمَّ ختم آبار البترول بختم الثورة !!!

ومنذ يومين لا أكثر أجريت الانتخابات العامة، للمجلس الوطني، وللدستور، ولرئيس الجمهورية، وكذلك منذ يومين، لم يبق في إيران شيءٌ من الطفيليات إلا واحترق مع الهشيم!!!

وها هي الجمهورية الإسلامية الإيرانية تنزل «خمينيةً» باسم بطلٍ عرف كيف يرسم الحق والمجد في...

دهشة التاريخ...