«كان الشّهيد سليماني شجاعاً ومدبّراً على السواء. لم يقتصر الأمر على الشجاعة؛ بعضهم لديهم الشجاعة لكنهم لا يمتلكون التدبير والعقل اللّازمين لاستخدام هذه الشجاعة. الآخرون هم من أهل التدبير لكنهم ليسوا أهل الإقدام والعمل، ولا يتحلّون برباطة الجأش اللازمة للعمل. شهيدنا العزيز كان يمتلك رباطة الجأش. يقع في فوّهة الخطر غير آبه. لم تكن الشجاعة والتدبير توأمين في الساحات العسكرية فقط بل كذلك في الساحة السياسية. في الميدان السياسي أيضاً، كان شجاعاً ومدبّراً في الوقت نفسه. وكلامه كان مؤثّراً ومقنعاً وفعّالاً».
الإمام الخامنئي (8/1/2020) خبّأت سنة 1998 سرّاً لبداية تحوّل كبير في المنطقة. صحيح أن «قوة القدس» كان لها عقد من العمر لكنها لم تكن بالسمعة التي هي عليها اليوم. السبب يعود إلى الفكر والمدرسة العسكرية للرجل الذي تولّى مسؤوليتها في ذلك العام: (العميد) قاسم سليماني. الآن، يمكن وصفُ هذه القوة بأنها الأكبر في المنطقة، أولاً لجهة القدرات، وثانياً لطبيعة العمل. ما معالم هذه المدرسة؟ تجيب مصادر إيرانية واكبت حياة الشهيد سليماني بشرح مفصّل، لكنها تتحفّظ على نشر معلومات كثيرة أكّدت أن لها يومها المناسب للإفصاح، أقله ليس قبل بدء الردّ الإستراتيجي بإخراج القوات الأميركية من المنطقة، وللمتحدثين أعذار أخرى. في أصل العقيدة العسكرية، يتكلمون على نمطين من العمل تنتهجهما القوات كافّة في الجمهورية: الأول المدرسة الكلاسيكية التي لها قواعدها المعروفة مع تطويرات وتحديثات خاصة أُدخلت على عملها بعد حرب «الدفاع المقدس» (1980 - 1988)، والثاني الحرب غير المتكافئة (نامتقارن، بالفارسية). الدافع إلى تطوير العمل باتجاه النمط الأخير هو بالدرجة الأولى المرشد الأعلى للثورة الإسلامية، السيد علي الخامنئي، والمشرف على التطبيق في الميدان والمطوّر للأساليب هو سليماني. باختصار، تقرّ هذه المدرسة بأن العدو لديه قدرات كبيرة لا تمكن مجابهتها بالنمط عينه، لا لجهة التقنيات ولا حتى المال. مثلاً موازنة الدفاع الأميركية لسنة واحدة تفوق الناتج القومي الإيراني كله بضعفين على الأقل. لذلك، لا بد من العمل بطريقة أخرى عمادُها أساسان: الأول الاستفادة من الطاقات النخبوية والشعوب في المنطقة، والثاني التركيز على نقاط ضعف العدو. سليماني، الذي حاز رتبة لواء عام 2010 (هو القائد الوحيد بين نظرائه الذي حظي بهذه الرتبة، فجميع قادة القوات البرية والجوية والبحرية والدفاع الجوي في الجيش والحرس والتعبئة لديهم رتبة عميد)، وجد معضلة أخرى على رأس مهمات «قوة القدس». عندما كان ينظر إلى الخريطة بعد تحرير جنوب لبنان، قال ذات يوم إنه رغم هذا الإنجاز المحوري لا يمكن تحرير فلسطين مع بقاء القوات الأميركية، لتصير معادلة العمل: تحرير فلسطين = إخراج الأميركيين، والعكس بالعكس. هنا جاء القرار السريع بـ«التوسّع» في مواجهة الأميركيين. وبينما للولايات المتحدة أكثر من 800 قاعدة منتشرة في العالم، قرّر «جنرال الحرب غير المتماثلة» أن يوزّع «قواعد» القوة بطريقته: أينما توجد مجموعة تقول لا أو تناهض الأميركيين، سيكون لـ«القدس» دعم وأثر، بغضّ النظر عن مكانها.
لم تمضِ خمس سنوات على تسلّمه مسؤولياته حتى جاء الاحتلال إلى العراق (2003)، وصار الأميركيون أقرب. فكان حاضراً من اللحظة الأولى. يدخل ويخرج، ويشارك المقاتلين في العمليات مباشرة. عندما قال الأميركيون إن دبابتهم «أبرامز» لا يمكن تفجيرها، عرض سليماني جائزة (بالطبع ليست مالية) لأول مقاتل من «فيلق بدر» يستطيع تفجيرها، وهكذا تمّ. بالتوازي، قُبيل الانسحاب الإسرائيلي من غزة عام 2005 وعلى مشارف حرب 2006 في لبنان، وضع هدفاً آخر يخصّ العدو الإسرائيلي: تحطيم الحلم الصهيوني، «من النيل إلى الفرات»، وتحجيمه ليصير: «من البحر إلى النهر»، أو أقلّ. من ذلك الوقت، نمّى «مزارع الصواريخ» لتكون موازياً لطائرات العدو وميزاناً للردع. كذلك، دمج الشهيد بين هدفين في الرسائل التعبوية لكل من يرتبط بـ«قوة القدس»، سواء في أفغانستان أو باكستان أو اليمن... فيهما أنه بجانب محاربة الأميركيين، أنتم أعضاء في «جيش الإسلام العالمي» الذي سيكون شريكاً في «حرب التحرير» لفلسطين إذا وقعت، وهي الفكرة التي انتقلت لتكون موقعاً للتطبيق العملي انطلاقاً من سوريا ولبنان والعراق... وغيرها. الثمرة الأولى لهذا «الفكر» هي إخراج قوات الولايات المتحدة من العراق سنة 2011، أو ما يسميه محدّثونا «الخروج الأول» للأميركيين. لكنّ «الربيع العربي» جاء سريعاً. وصاحب «البصيرة والنظرة الإستراتيجية»، بوصف المصادر، تنبّه إلى خطر الخطط الأميركية على الرفّ الجاهزة لوضعها على السكّة قيد التنفيذ. هنا بات لا بد من تغييرٍ فرضه الواقع، فبرز دور سليماني في مواجهة المجموعات المسلحة في سوريا والعراق ليخرج من «الظلّ» إلى الشاشات، وليدخل السياسة الإقليمية من واسع أبوابها في منطقة هي الأكثر غلياناً في العالم. وحينما أتى تنظيم «داعش» بنسخته المحدّثة (2014) انهزمت الجيوش الكلاسيكية وسقط نصف العراق ووقعت سوريا في مربع الخطر الوجودي. جاء «الحاج» حاملاً معه تجربته في أفغانستان وتاريخاً من نظريات الحرب غير المتكافئة وتطبيقاتها. في المرحلة الأولى، كان الجيش السوري مثلاً لا يزال مصرّاً على الطريقة التقليدية في العمل، ما تسبب في خسائر كبيرة في الأرواح والعتاد والأرض. ومنذ اقتنع «الحلفاء» بوجهة نظر «الأصدقاء» تغيرت المعادلة وقُصّر أمد الحرب من عقود إلى أربع أو خمس سنوات. حتى عندما طلب بذاته التدخّل الروسي، تستدرك المصادر نفسها، لم يكن ذلك لتغيّر في عقيدة العمل ونوعه لدى سليماني وميله مثلاً إلى العمل الكلاسيكي، بل كان السبب سياسياً بالدرجة الأولى. فمع تعذر مشاركة رسمية للجيش الإيراني في الحرب السورية، لأسباب داخلية وأخرى إقليمية ملحّة، كان لا بد من موازاة التدخل العسكري الأميركي والأوروبي والتركي والإسرائيلي، وهذا لا يوازنه إلا موسكو على الأقل. أما الصين، فأدرك سليماني أنها لن تدخل أي مواجهة قبل أمرين: الأول الانتصار في الحرب الاقتصادية، والثاني أن يكون جيشها الأقوى في العالم (ليس قبل 2050). مع بداية سقوط «داعش» (2016)، أَخرجت واشنطن من قبّعتها ورقة أخرى: استقلال كردستان العراق (2017). صحيح أن سليماني أصرّ بنفسه على أن ينقذ أربيل من «داعش» في عام 2014، لأسباب إنسانية أولاً، وثانياً لكيلا يصير التنظيم على حدود لصيقة بالجمهورية الإسلامية، لكنه نفسه من قاد قوات «الحشد الشعبي» بعد ثلاث سنوات للسيطرة على كركوك وإسقاط «استقلال» الإقليم ومعه مخطط تقسيم العراق إلى ثلاث ولايات، لتنتهي الحياة السياسية لرئيس كردستان السابق مسعود برزاني. الأخير هو نفسه من طلب منه سليماني الصمود ليلة واحدة حتى يصله. تستذكر المصادر الإيرانية في هذا المحور «مغامرات» الشهيد. فهو عندما حطّ في أربيل، لم يكن معه قوات وإنما أسلحة ومستشارون فقط. أما «داعش»، فهرب بمجرد الخبر عن وصول الحاجّ. أمرٌ سبق أن حدث في ريف دمشق، يوم فرّ مسلّحون كانوا ينوون تنفيذ عملية كبيرة في العاصمة السورية، لكنّ النبأ عن وصول سليماني (لم تكن معه قوات أيضاً) وإطلاق بضع رصاصات في الهواء كانا كافيين.
قبل اغتيال سليماني، كان مشروعه الأساس عقب إنهائه الحلم الأميركي ــ الإسرائيلي ــ الخليجي بـ«حمّام دم» شيعي ــ سني في المنطقة يخلص إلى فوضى كبيرة داخل إيران هو إطباق الطوق حول فلسطين المحتلة، الأمر الذي نجح في إتمامه. في القراءة السياسية لدى المصادر، كلُّ ما يجري من «حفلة تطبيع» تريد جرّ دول مثل باكستان وماليزيا وأفغانستان (عقب انطلاقها في الإمارات والبحرين) ومحاولة فرضها على عُمان والكويت وقطر هدفه إتمام طوق حول إيران يكتمل شمالها بدول من بقايا الاتحاد السوفياتي. استبق سليماني هذا الطوق بشبكة مُحكمة في الإقليم أولاً والعالم ثانياً تقوم على عقيدته العسكرية التي تبناها من البداية. عقيدةٌ جعلت من لقّبه الأميركيون بـ«الشبح» يطرق أبواب دول لم يُعلن وجوده فيها بعد، ويقوم على مهمات لم ترغب المصادر في الكشف عنها الآن، مكتفية بالإشارة إلى أنه وصل بنفسه إلى أقرب نقطة من حدود الولايات المتحدة: فنزويلا.
تعليقات الزوار